خطة الهجوم وترتيباتها الاخيرة
حشدت "ايتسل" و"ليحي" قوة عدادها 200 من اشرس مقاتليهما للهجوم على دير ياسين ووضع حوالي 70 منهم في الاحتياط. ونظم الباقون كقوة هجومية قسمت الى اربع شراذم وعين كل من يهودا لبيدوت وهودا سيفل (كلاهما من "ايتسل" ) ومنشه ايخلر ومردخاي بن عوزيهو (كلاهما من "ليحي") قائد للهجوم ككل بينما تولى بتحيا زليفسكي قيادة رجال "ليحي". ووزعت على المقاتلين البنادق والرشيشات الاتوماتيكية بالتساوي كما اعطي كل مقاتل قنبلتان يدويتان ومسدس وهراوة وكان لكل شرذمة مدفع رشاش Bren واغلب الظن ان الهراوات كانت للاجهاز على الجرحى العرب توفيرا للذخيرة. وحملت الشراذم كميات وافرة من المواد المتفجرة ( gelignite) . وضمنت خطة الهجوم التحرك على اربعة محاور اولا: شرذمة "ليحي" بقيادة مردخاي بن غوزيهو تتقدم من غيفعات شاؤول وتهاجم دير ياسين من الشمال باتجاه الزاوية القائمة حيث تلتقي الطريق الرئيسية غرب - شرق الموصلة من غيفعات شاؤول الى دير ياسين بالطريق شمال - جنوب التي تمر امام وسط البلدة (الحارة). ثانيا : شرذمة مختلطة تتقدمها مصفحة عليها مكبر صوت بقيادة منشه ايخلر تندفع من الشرق الى وسط البلد على الطريق الرئيسية من غيفعات شاؤول. ثالثا: شرذمة بقيادة يهودا سيفل تنطلق من مستعمرة بيت هاكيريم وتهبط في الوادي الفاصل بين دير ياسين لتتسلق الطرف الآخر من الوادي وتقتحم القرية من الناحية الشرقية الجنوبية عند جامع الشيخ ياسين وشرذمة بقيادة يهودا لبيدوت تنطلق من بيت هاكيريم ايضا وتهاجم القرية بحركة التفافية من الجنوب الغربي حتى تسيطر على اعالي القرية الغربية من الخلف أي من الغرب. وفي شهادة لاحقة لمردخاي جيحون ضابط استخبارات الهاغانا في منطقة بيت هاكيريم ان قيادة الهاغانا أوكلت اليه مهمة احتلال تل الشرافة (جبل هرتسل الان) الواقع الى جنوب شرق دير ياسين (على ان يتزامن ذلك مع تحرك قوات المنظمتين الاخريين) لنصب مدفع رشاش ثقيل ( Spandau) بهدف توفير سيطرة نارية على درب دير ياسين - عين كارم لمنع النجدات من الاخيرة ولضرب مواقع القرية العليا الغربية ولازعاج الفارين من دير ياسين. وعينت ساعة الصفر في الخامسة والنصف مع الفجر على الا يبدأ باطلاق النار من قبل القوات المهاجمة حتى يصل كل منها الى هدفه في اطراف القرية البعيدة وفي وسطها وبعد ان تطلق رشقة ضوئية من مدفع رشاش ايذانا بالبدء بالهجوم العام. ولا بد من كلمة هنا عن مكبر الصوت الذي كان منصوبا بجانب المدفع الرشاش Bren على المصفحة الاقتحامية ذلك ان دوره في المعركة غدا قطب الرحى في الروايات التبريرية اللاحقة للمنظمتين الارهابيتين لما اقترفت ايديهما في دير ياسين، ومعلوم لكل دارس للتكتيك الهجومي للقوات اليهودية في هذه المرحلة بما في ذلك قوات الهاغانا ان هذه القوات كانت دائمة الاعتماد في هجماتها على الاهداف المدنية العربية (اضافة الى القصف والتفجير والضرب بالنار) على عنصر الحرب النفسية عن طريق مكبرات صوت على ناقلات واذاعات في الراديو تدعو السكان المستهدفين الى الاستسلام والفرار امعانا في خلق الذعر والبلبلة في صفوفهم واضعافا للمقاومة وتيسيرا لمهمات الوحدات القتالية وهذا ما حدث بالفعل في هجمات الهاغانا على الاحياء العربية في كل من حيفا والقدس ويافا وغيرها. بيد ان الامر اصبح في الروايات التبريرية اللاحقة لما حدث في دير ياسين ان مكبر الصوت كان انما دليل على فروسية "ايتسل" وليحي" حيث ان النية على استعماله (وهو لم يستعمل كما سنبين لاحقا) عني التخلي عن عنصر المفاجأة وبالتالي تعريض المهاجمين انفسهم للهلاك حرصا على ارواح المهاجمين. وما ذلك طبعا الا هراء في هراء، يذكر ان "ايتسل" اعتمدت هذه الحجة بالذات في اثر مذبحة فندق الملك داود عام 1946 حين ادعت بانها انذرت الفندق بوجوب اخلائه قبل الانفجار بثلاثين دقيقة فجعلت بذلك اللوم لما حدث على ضحاياها. وهكذا انهمك رجال "اتسل" و"ليحي" في الاعداد للهجوم وتدربوا في منطقة مبنية قريبة في حي الشيخ بدر المهجور (وهو من الاحياء العربية في القدس الغربية الذي تم الاستيلاء عليه سابقا) على القاء القنابل اليدوية الى داخل كل منزل واطلاق رشقات رصاص على داخل كل غرفة قبل دخولها وسرقوا المصفحة التي كانت تخص الهاغانا كما سرقوا سارية من مبنى حكومي لرفع الراية الصهيونية على القرية وقاموا بجولات استطلاعية حوالي دير ياسين ووصلوا الى مشارفها ورافقهم في ذلك رجال من الهاغانا والتقوا باعضاء الهاغانا الذين كانوا يتمركزون في مواقع مقابل دير ياسين واتفقوا معهم على كلمة السر"سنضرب العدو". ولا بد هنا من العودة قليلا الى مئير بعيل الذي روينا عنه اعلاه ما جرى بين شلتئيل قائد الهاغانا في القدس وقادة "ايتسل" و"ليحي": في مقابلة حاول الاول فيها ان ينهيهم عن الهجوم على دير ياسين واختيار قرى سواها ذلك ان بعيل اصبح ابرز ناقد عمالي يساري لافعال "ايتسل" , " ليحي" في دير ياسين في المناظرة العنيفة التي ما زالت قائمة الى يومنا هذا حول ما حصل فعلا في 9 نيسان عام 1948 وحول دور الهاغانا في المعركة ويخبرنا بعيل التابع لمخابرات البالماخ في حينه انه كلف بمراقبة المعركة المقبلة حتى يرفع تقريرا إلى قادة الهاغانا يقيم فيه اداء المنظمتين الارهابيتين العسكري لكونهم كانوا ينظرون في صلاحيتهما للاندماج في قوات الهاغانا أي جيش الدولة العبرية المزمع اعلانها قريبا. ويقول بعيل انه اندس بين صفوف المهاجمين حين بدء تحركهم نحو دير ياسين حاملا رشيشا من نوع ( Tommy) لم يطلق منه رصاصة واحدة وانه اصطحب معه مصورا يحمل الة تصوير من نوع "لايكا" وان المصور التقط 36 صورة عن مراحل المعركة كلها ارسلها بعيل مع تقرير الى قيادة الهاغانا فور انتهائها وسنتطرق الى بعيل وروايته ومشاهداته لاحقا. قبيل منتصف ليل 8/9 نيسان تحركت قوة "ليحي" بقيادة بتحيا زليفنسكي من حي الشيخ بدر (مسرح تدريبهم ) الى مستعمرة غيفعات شاؤول نقطة انطلاقها اذ تمركزوا في موقع للهاغانا ملاصق لمصنع البيرة. وفي الوقت نفسه وصلت قوة "ايتسل " بقيادة بن زيون كوهين الى مستعمرة بيت هاكيريم نقطة انطلاقها.
ليل الجمعة 9 نيسان 1948
لم تكن ليلة الجمعة 9 نيسان (ابريل) عام 1948 ليلا ساكنا لاهالي دير ياسين البالغ عددهم 750 نفسا. بيد انه لم يخطر ببال احد منهم انها ستكون اخر ليلة سيأوون فيها الى فراشهم بين اهلهم ووسط كرومهم في قرية ابائهم واجدادهم او ان العديد من اقرب الاقربين اليهم لن يروا غروب الشمس التالي، ولف البلدة جو جمع بين دكنة الليل والحزن على عبد القادر، وشد القلوب شعور بالانقباض وهواجس مصدرها التحسب وضيق النفس. وطلب حسن رضوان من زوجته عثمانه الا تنام الليلة مع الاولاد في منزلهما الواقع في اطراف البلدة الغربية، وان تذهب للمبيت في منزل والدها صالح رضوان (90) وسط القرية، فتفعل، وتمضي هزيع الليلة في احاديث مع والدها الذي يسر اليها مخاوفه، خصوصا ان يهوديا من معارفه زاره ظهر اليوم (الخميس) في كسارة العائلة بالقرب من غيفعات شاؤول ليحذره بلغة عربية ركيكة "يا خاج روخ من هون بدهم يضربوا من شانك". وتشاهد عزيزة عطية زوجة محمود رضوان من منزلها ليلا تجمعا يهوديا مريبا في غيفعات شاؤول فتخبر احد جيرانها فينصحها بالسكوت حتى لا تخيف القرية، وتقرر ان تذهب الى فرن القرية في ساعة مبكرة (هي الثانية صباح الجمعة) على غير عادتها حاملة صينية العجين على رأسها وتترك اولادها نائمين : جمال (سنة ونصف)، ثريا (4 سنوات)، سكينة (9 سنوات)، احمد (11 سنة)، فاطمة (12 سنة) ورفقة (14 سنة) وتغلق عليهم الباب وتأخذ معها المفتاح وفي نيتها العودة قبل ان يستيقظوا، ويستمع زوج ام عيد الى نعي عبد القادر ـ عبد القادر، مجاهد فلسطيني كان من القادة المدافعين عن ارض فلسطين وحقوق الشعب الفلسطيني استشهد في نيسان 1948ـ من الة الراديو في منزله، وهي احدى ثلاث آلات راديو في القرية تعمل على بطاريات السيارات ويقوم ليستحم وينام فتتولى تنظيف البيت وتخرج الموقد خارجه وتشعر في الظلام ان شيئا ما لمسه فتهر ب الى داخل البيت مذعورة وتطرق الباب بشدة ايقظت زوجها وتروي له ما حدث فيهدأ من روعها ويطلب منها الخلود الى النوم فترضع ابنها وتنام. قرابة الواحدة صباحا من يوم الجمعة 9 نيسان (ابريل) تحركت شراذم مشاة المهاجمين الثلاث من قواعدها حتى تكون في مواقعها المحددة لكل منها في اطراف القرية وفق خطة الهجوم عند ساعة الصفر في الخامسة والنصف من الصباح. وللتذكير نعيد ما اسلفنا: اقتضت الخطة ان تنطلق شرذمة ليحي (شتيرن) من مستعمرة غيفعات شاؤول غربا لتقتحم القرية من الشمال الشرقي في منطقة بئر الجوزة. عند المنازل والمنازل قبلها على يمين الطريق وتنطلق شرذمتان للايتسل (ارغون) من مستعمرة بيت هاكيريم احداهما تقوم بحركة التفافية من الجنوب لتقتحم اعالي القرية الغربية عند المنازل والثانية تقطع الوادي الفاصل هبوطا وصعودا لتقتحم القرية عند منطقة جامع الشيخ ياسين ومدرسة البنات اما المصفحة فتنقل قسما من الشرذمة الرابعة المختلطة (10 مقاتلين) من ايتسل وليحي ويتبعها الباقون سيرا على الاقدام وتسرع على الطريق الرئيسية لتصل الى وسط القرية عند المنزل على ان يتزامن وقت انطلاقها مع انتهاء تمركز الشراذم الثلاث الاخرى المسبق في مواقع بدء هجومها عند ساعة الصفر لقصر المسافة التي على المصفحة قطعها، وهكذا كانت الخطة الا يباشر المهاجمون باطلاق النار قبل احكام الطوق على القرية من الشمال والشرق والجنوب والغرب على ان تكون اشارة البدء صلية ضوئية من مدفع رشاش تحمله شرذمة "يهودا سيغل " المكلفة بالاقتحام بالقرب من جامع الشيخ ياسين، ويروي يهودا لبيدوت قائد شرذمة ايتسل الثانية ان قوته صادفت على الطريق حراسا من الهاغانا :"فقلت لهم: اننا ذاهبون لمهاجمة دير ياسين، باركونا قائلين، نتمنى لكم النجاح، نتمنى لكم النجاح". في هذه الاثناء كان رجال دير ياسين وشبابها في حال تأهب شديد يتناوبون الحراسة ويساندون بعضهم بعضا فيها فاسماعيل محمد عطية (37 سنة) العائد لتوه من معركة استرداد القسطل يتوجه الى منزله ليتفقد اسرته ثم ينطلق الى احد مراكز المراقبة امام منازل العائلة. ليقف على مسافة من اخيه الاصغر وكلاهما يحمل بندقية، وينهي داود جابر دوره في الحراسة في الساعة الثانية عشرة من منتصف الليل وبدل ان يعود الى منزله يتوجه مع آخرين لدعم المجموعة المرابطة عند كسارة سحور، وفي الساعة الثانية عشرة ايضا يستلم احمد رضوان البندقية من اخيه محمود الذي يكبره سنا ليقوم بدوره في الحراسة والمراقبة، ويأخذ في الوقت نفسه حسين زيدان البندقية من ابنه داود … وهكذا… ويروي اسماعيل محمد عطية انه شاهد في الثانية والنصف صباح الجمعة اضواء كاشفة لسيارات يهودية تخرج من المستعمرات تارة وتعود تارة فيذهب مع آخرين الى الطريق الرئيسية الموصلة الى المستعمرات ليستطلعوا جلية الامر فلا تلبث حركة السيارات ان تتوقف ويبدو كل شيء هادئا وتغط المستعمرات في ظلام دامس.