خطورة الدولة الصفوية
كانت الدولة الصفوية تحاول نشر المذهب الشيعي في الأناضول وترسل المئات والآلاف من شباب التركمان الشيعة -بعد تدريبهم- إلى الأناضول لهذا الغرض. وكانت نتيجة هذه الجهود حدوث حركات عصيان مسلّحة قادها الشيخ جُنَيد أولا ومن بعده ابنه حيدر، أي كانت هناك قلاقل كبيرة في الأناضول، ولم تتخلص الدولة العثمانية من هذه القلاقل ومن خطر الدولة الصفوية إلا في عهد السلطان سليم (ابن السلطان بايزيد الثاني).
إذن فالدولة العثمانية كانت في ضائقة شديدة وكانت في حرب فعلية مع المماليك من جهة، وفي مشاكل كبيرة مع الدول الأوروبية حيث نرى أنه بعد سنوات قليلة اضطرت الدولة العثمانية لإعلان الحرب على المجر وعلى بولندة. كما اتفقت بولندة والمجر وليتوانيا ضد الدولة العثمانية وأعلنت عليها الحرب، كما كانت تعاني من وجود قلاقل وحركات تمرد وعصيان في الداخل. لا نريد الخروج عن الموضوع وإيراد تفاصيل جانبية، ولكن كان من الضروري إلقاء نظرة على وضع الدولة العثمانية آنذاك.
"بايزيد" يفعل ما يستطيع[]بعد دراسة لكافة الظروف الداخلية والخارجية قرر السلطان بايزيد إرسال قوة بحرية تحت قيادة "كمال رَئِيس" على وجه السرعة. كان ذلك في عام 892هـ/ 1487م. أي قبل سقوط غرناطة بخمس سنوات. وكانت الدولة العثمانية بعملها هذا تعلن الحرب على عدة دول مسيحية في أوروبا؛ كانت تعلن الحرب على قسطاليا وعلى آراغون وعلى نابولي وعلى صقلية وعلى البندقية؛ أي أن الدولة العثمانية على الرغم من مشاكلها الكثيرة -التي ذكرنا أهمها- كانت الدولة الإسلامية الوحيدة التي مدت يد العون لمسلمي الأندلس على قدر طاقتها، ودخلت من أجلهم في حالة حرب مع دول عدة؛ بينما توقّفت عن ذلك الدول الإسلامية الموجودة في شمالي أفريقيا والتي كان بإمكانها من الناحية الجغرافية مسلمي الأندلس كالدولة الحفصية في تونس والدولة الوطاسية في المغرب.
قام "كمال رَئيس" بضرب سواحل جزر جاربا ومالطا وصقلية وساردونيا وكورسيكا، ثم ضرب سواحل إيطاليا ثم سواحل إسبانيا، وهدم العديد من القلاع والحصون المشرفة على البحر في هذه السواحل. وقام أحيانا بإنزال جنوده في بعض السواحل لهدم تلك القلاع. ولكنه لم يكن يستطيع البقاء طويلا، لأن الحرب البحرية لا تكفي للاستيلاء على المدن ولاسيما المدن الداخلية البعيدة عن البحر، فلا بد من مشاركة القوات البرية التي تستطيع التوغل في الداخل وتثبيت وإدامة السيطرة على المدن المفتوحة. ولم يكن هذا ممكنا آنذاك، لبُعد الشقة بين الأندلس وبين الدولة العثمانية وكذلك بين مصر والأندلس. ولو صرفت الدولة العثمانية كل طاقتها وحاولت الوصول بَرّا إلى الأندلس (وهذا ما لا يتوقعه عاقل) لكان عليها محاربة العديد من الدول الأوروبية لعشرات الأعوام. هذا علما بأن الدول الأوروبية كانت قد قطعت كل صلة لمسلمي الأندلس مع البحر الأبيض المتوسط، كما سدّوا مضيق جبل طارق ليمنعوا وصول أي نجدة إليهم من الدول الإسلامية. وقام "كمال رئيس" بقصف بعض سواحل تونس بسبب كون الدولة الحفصية الحاكمة في تونس في حلف مع الأسبان ومع فرنسا ضد إخوانهم من مسلمي الأندلس.
وكم كان من المؤسف أن هذه القوة البحرية العثمانية اضطرت أخيرًا إلى مواجهة الدولة الحفصية في تونس لكونها تقوم بمساعدة الفرنسيين. ولكون الدولة العثمانية في حرب مع المماليك فقد وقعت هذه القوة البحرية بين نارين، لذا لم تؤد هجمات هذه القوة البحرية إلى نتائج ملموسة. وفي عام 897هـ/ 1492م استسلمت مدينة غرناطة وانتهى حكم المسلمين في الأندلس. ولكن هذه القوة البحرية قامت بنقل ما يقارب من 300 ألف من المسلمين التاركين بيوتهم والهائمين على وجوههم من الأندلس، إلى المغرب وإلى الجزائر.
أما الوفد الأندلسي الثاني المرسل إلى دولة المماليك في مصر فلم يحصل على أي نتيجة أيضا حيث إن مصر بعيدة عن الأندلس، ويحتاج إنقاذ هؤلاء المسلمين إلى قوة برية. كما كانت في حرب مع الدولة العثمانية كما ذكرنا.
كان الأشرف سيف الدين قايتباي (1468- 1496م) هو الذي يحكم دولة المماليك آنذاك، فلم يجد وسيلة لنصرة مسلمي الأندلس سوى إرسال وفود إلى البابا وإلى الأسبان ليقول لهم أن هناك العديد من المسيحيين يعيشون في مصر وفي سورية وأنهم يتمتعون بكامل حرياتهم الدينية ولا يتعرض لهم أحد، وليحذرهم بأنه سيقوم بقتل جميع المسيحيين وإجبارهم على اعتناق الإسلام إن قام الأسبان بقتل المسلمين أو إجبارهم على التنصر. ولم يهتم الأسبان ولا البابا بهذا التحذير الذي عدوه مجرد تخويف لأنهم يعلمون أن الدين الإسلامي يمنع إكراه أحد على ترك دينه. وقد ادعى الأسبان لوفد مصر أن المسلمين تنصروا بملء إرادتهم ولم يجبرهم أحد على هذا. وجاءوا بشهود زور تم تهديدهم وتخويفهم فشهدوا بذلك.
وقد سجل أبو البقاء في شعره هذه الحادثة وذكر أسماء المدن التي عذب أو أحرق أهلها أو ذبحوا بالسيف قائلاً:
فسل وحرا عن أهلها كيف أصبحوا***أسارى وقتلى تحت ذل ومِهنة
وسل بلفيقا عن قضية أمرها***لقد مُزقوا بالسيف من بعد حسرة
وضيافة بالسيف مزق أهلها***كذا فعلوا أيضا بأهل البشرة
وأندرش بالنار أحرق أهلها***بجامعهم صاروا جميعا كفحمة
وهكذا بقي مسلمو الأندلس وحدهم في الميدان وتجرعوا الآلام وبادت دولتهم الزاهرة جزاء تفرقهم إلى طوائف عديدة. فجرّوا على أهاليهم وبلدهم تلك النهاية المروعة التي ستبقى من أكثر المآسي المروعة في التاريخ الإنساني