القلاع في بريطانيا
عندما بدأ النورمنديون يحكمون بريطانيا ، سنة 1066م ، وجدوا أنفسهم ملزمين بإقامة حكم قوي لفرض سلطانهم على سكانها الأنجلوسكسون المغلوبين . وكان بناء القلاع الطريقة الوحيدة التي مكنتهم من الاحتفاظ بمثل هذا السطان . ولهذا فقد أصبحت القلاع جزءاً من البناء السياسي والاجتماعي للنظام الإقطاعي الذي فرضه النورمنديون على إنجلترا . وكانت كل قلعة من القلاع في قبضة سيد من السادة النورمنديين ، الذي كان يتولى ، بالنيابة عن الملك ، إقامة العدل والمحافظى على القانون والنظام وجميع الإيجارات والضرائب والغرامات . وكان كل سيد من هؤلاء يدين بالولاء للملك الذي أقسم يميناً بالقيام على خدمته .
كان يجب على النبيل أن يحصل عادة على إذن من الملك قبل أن يبني قلعة من القلاع . ولكن في أوائل القرن الثاني عشر الميلادي قام النبلاء الأقوياء ، الذين كانوا يعارضون حكم الملك ستيفن ، ببناء أكثر من ألف قلعة دون ترخيص من الملك . ووصل بناء القلاع في بريطانيا إلى أوجه خلال حكم الملك إدوارد ( 1272 – 1307م ) ، الذي شيّد كثيراً من القلاع في منطقة ويلز وتخومها ، بغية إخضاع أهلها الويلزيين ، الذي كانوا قد ثاروا ضد الحكم الإنجليزي .
كان التطور في استخدام البارود ، في القرن الرابع عشر الميلادي ، بداية الانحسار في بناء القلاع في بريطانيا ؛ وذلك لأنه لم يكن بإمكان القلاع الصمود أمام البنادق والمدافع . وقد توقف بناء القلاع ، عملياً خلال القرن السادس عشر الميلادي .
الحياة في قلعة أوروبية في العصور الوسطى ، من الطبيعي أن يكون تصميم القلاع مختلفاً اختلافاً واضحاَ عن البيوت العادية . فالقلاع تصمم بحيث تكون معاقل عسكرية ومساكن خاصة في آن واحد . وكان البناء الرئيسي للقلعة ، الذي أقيم على قمة التل في المرحلة المبكرة ، يعرف باسم الحصن أو البرج المحصّن . وهو أكثر الأماكن الدفاعية مناعةً عندما تتعرض القلعة للهجوم . وكان أيضاً مركز الحياة العائلية ، حيث توفرت فيه كل أسباب المعيشة التي يحتاجها النبيل وأسرته وحاشيته ، فضلاً عن عائلات أخرى قد تعيش فيه . وكانت حاشية النبيل تتألف ، عادة من الإداريين الرئيسيين والجنود والكهنة .
اشتمل الحصن أو البرج المحصّن على بهو ، يتناول الناس فيه الطعام ، واشتمل على مطابخ لإعداد المأكولات ، وكنيسة صغيرة ودورات مياه ، وأماكن للنوم . وكانت التدفئة والإنارة فيه غاية في البساطة ، حيث كان هناك موقد كبير مكشوف يزود البهو بالتدفئة . كما كانت هناك مواقد صغيرة موزعة في أماكن أخرى من الحصن . ولم يكن للنوافذ الصغيرة أي نو من الزجاج ، وإنما كانت تُغطى عادةً بمصاريع ( أبواب ) في الأجواء الرديئة . وكان الحصن يزود بإنارة إضافية ، عدا تلك التي كانت توفرها المواقد ، وذلك باستخدام مشاعل مصنوعة من الشحم والخشب والشموع . أما الأدوار التي كانت تستخدم للسكن فكانت تفرش عادةً بالقش . وكانت حاشية السيد الإقطاعي تنام على الأرض ، بل غالباً ما كانت تنام مع الحيوانات الأليفة في القلعة . وجرت العادة أن يتم الاحتفاظ بالحيوانات في الساحة المسوّرة المسماة بيلي ، خلال اليوم .
دفاعات القلعة
كان الحصن يحتوي على مخزن للطعام ومستودع للمعدات العسكرية ، وذلك بغية الصمود أمام الهجمات التي قد يتعرض لها . وكان الحصن يُبنى عادةً فوق بئر توَفر المياه العذبة لسكانه . ولذا شُيد الحصن بحيث يكون منيعاً والدفاع عنه يسيراً ، واقتحامه أمراً عسيراً . وكانت المداخل الخارجية مزودة بجسور متحركة ، لها بوابات مصنوعة من الحديد أو الخشب ، يتم إنزالها لتغلق المدخل الذي كان في معظم الأحيان ، في الدور الأول أو الثاني ، وكان الوصول إليه يتم بعبور مسافة ضيقة من سلّم مسقوف . وكان بإمكان قلة من الجنود المرابطين عند هذا السلّم الدفاع عنه بسهولة ضد أي هجوم . ويمكن مشاهدة مثل هذه السلالم الخارجية ، في القلاع الإنجليزية ، كقلعة دوفر بإقليم كنت ، وقلعة ريزنك بإقليم نورفوك .
موقع القلاع
يبحث البنّاؤون عند محاولتهم اختيار موقع لبناء قلعة من القلاع ، عن مكان يمكن الدفاع عنه بسهولة . وأن يكون مشرفاً إشرافاً جيداً على الريف المحيط به . وقد شُيدت بعض القلاع فوق منحدر طبيعي من الأرض ، بحيث يوفر موقعاً دفاعياً حسناً . من الأمثلة على ذلك ، تلك القلاع التي شيّدت نتوءات صخرية طبيعية مثل قلعة السلطان قايتباي في الإسكندرية بمصر ، ومثل قلعة السلطان محمد الفاتح التي تطل على مضيق البوسفور في تركيا . كما أن بامبورج ، الواقعة في إقليم نورثمبرلاند بإنجلترا قد شُيدت فوق قمة جرف صخري شاهق .
إن اختيار موقع القلعة كان يتأثر أيضاً بمسألة الحاجة إلى الدفاع والتحكم بأماكن محددة بعينها . ففي إنجلترا شُيد بج لندن للتحكم بنقطة عبور على نهر التايمز . كما أن القلعة التي شُيدت في دوفر تشرف على المرفأ نفسه . وهناك الكثير من القلع التي تمّ بناؤها على امتداد الحدود الواقعة بين دولتين متعاديتين ، مثل القلاع التي شُيدت على الحدود الواقعة بين البرتغال وأسبانيا ، والقلاع التي شُيدت على الحدود في إيطاليا . وكذلك القلاع التي بُنيت في إنجلترا على امتداد الحدود بين الأسكتلنديين والويلزيين . كما شُيدت قلاع للتحكم بالطرق ، فالقلاع الإنجليزية في كل من روشيستر وتونبردج بإقليم كنت ، وقلعة وندسور بإقليم بركشاير ، كانت تتحكم جميعها بالطريق التي تؤدي إلى لندن .
كما أن قلاعاً أخرى شُيدت خصيصاً للسيطرة على المجموعات المحلية المتمردة ، كالقلاع الإنجليزية في إكستر بمنطقة ديفون ، وقلعة يورك في شمال يوركشاير .
نبذة تاريخية
لم يبنِ الرومان قلاعاً حقيقة وإنما بنوا حصوناً صغيرة على الجبهات المهمة التي تحتاج إلى حماية ، مثل جدار هدريان في شمالي إنجلترا . إن الكثير من القلاع الرومانية كانت تطوق مدناً بكاملها .
كما كان يحيط بهذثه المدن أسوارٌ منيعة ذات مداخل محصّنة . ومن المدن المسورة في بريطانيا مثلاً : مدينة كارليون وتشستر ويورك .
بعد أن ترك الرومان بريطانيا لم يبنِ خلفاؤهم السكسونيون ، في بداية حكمهم أي نوع من الحصون . ولكن عندما بدأ الغزاة الدنماركيون باجتياح إنجلترا ، شيّد الملك ألفرد الأكبر ( 871 – 899م ) كثيراً من الحصون .
القلاع الأوروبية في العصور الوسطى
شيّد النورمنديون مثلهم في ذلك مثل غيرهم من الشعوب الأوروبية الشمالية ، معظم قلاعهم من الخشب . ولكن القلاع الملكية في بريطانيا ، مثل تلك التي في كولشستر بمقاطعة إسكس ، والبرج الأبيض في لندن ، وكذلك القلاع التي بُنيت في مناطق مثل كورنوول ، فقد شُيدت جميعها من الحجارة لتوفرها في هذه المناطق أكثر من الخشب . وعندما أصبح الحكم النورمندي في إنجلترا أكثر رسوخاً ، حلّت الحجارة محل الخشب كمادة في بناء القلاع ، في أنحاء بريطانيا كافة ، كما استخدمت الحجارة في وقت لاحق في أيرلندا . وكانت بعض الأبراج مربعة الشكل . إلا أن هذا النوع من الأبراج لم يكن فعّالاً . إذ لو نجح العدو في تقويض إحدى زواياه لتحطم البرج بكامله ، ولهذا بدأ مهندسو القلاع بتجريب تصاميم أخرى ، فشيدوا قلاعاً ذات أبراج دائرية أو مضلعة .
تأثير الشرق في القلاع الأوروبية ، جلب الأوروبيون الذين ذهبوا إلى الشرق الأوسط ، إبّان الحملات الصليبية الأربع الأولى ، أفكاراً جديدة إلى أوروبا خاصةً ببناء القلاع . فقد تبنوا التصميم الرئيسي الذي كان يستخدم في القلاع البيزنطية . كما شاهد هؤلاء الأوروبيون أثناء رحلاتهم في فلسطين وغيرها ، من أماكن الشرق الأوسط ، القلاع المتكاملة وقلّدوها . فقد كان للقلعة الصليبية جدار ثان وثالث داخل الأسوار الدفاعية الرئيسية .
ومن المعروف أن معظم القلاع التي شيّدها الملك الإنجليزي إدوارد الأول ، في منطقة ويلز كانت نمط هذه القلاع . وقد صممها له المهندس المعماري ماستر جيمس من سان جورج .
شيّد النورمنديون قلاعاً كثيرة في أيرلندا بعد أن قاموا بغزوها في أواخر القرن الثاني عشر الميلادي . ومن بين تلك القلاع قلعة تريم ، الواقعة في إقليم ميث . كانت قد شُيدت عام 1173م وأُعيد بناؤها عام 1220م . وكذلك قلعة مينوث ، في إقليم كلدير . كانت قد شُيدت عام 1176م . هذا فضلاً عن قلعة لمريك التي شُيدت عام 1210م ، وقلعة روسكمون التي شُيدت عام 1278م ، كما شُيد في فرنسا بعض القلاع التي تعد أكثر القلاع الأوروبية روعةً . ومن بينها قلاع تعود للعصور الوسطى ، مثل قلعتي أنجر وشاتو جايلارد . وكانت قلعة شاتو قد شيّدها الملك الإنجليزي ريتشارد الأول ؛ وهو ريتشارد قلب الأسد الذي شارك في الحروب الصليبية . ومع أن القوات الحربية الإنجليزية دافعت عن هذه القلعة دفاعاً مستميتاً ، إبّان الحصار الطويل الذي ضربه الجيش الفرنسي عليها ، عامي 1203 و 1204م ، فقد سقطت أمام المهاجمين الفرنسيين .
وأخيراً بعد أن تعرفنا عن القلعة ، وتصفحنا استخدام الشعوب والحضارات المختلفة لها ،، نقول سبحان الذي منّ على الإنسان بالعقل ، حتى قاده لأفضل من القلعة ؛ أجهزة الدفاع بالتقنية الحديثة .