وزارة الهلالي
كان نجاح اللواء محمد نجيب في انتخابات نادي الضباط على غير رغبة القصر ذا تأثير كبير في الحياة السياسية؛ إذ عمل القصر على حل مجلس إدارة نادي الضباط، فاستقال اللواء نجيب، وتدخل رئيس الوزراء حسين سري لإنقاذ الموقف بأن يعين نجيب وزيرا للحربية، فلم يتمكن من ذلك فقدم استقالته؛ فاختار الملك محمد نجيب الهلالي لتشكيل الوزارة الجديدة في (28 شوال 1371هـ= 22 يوليو 1952م)، واختير إسماعيل شريف الموالي للقصر وزيرا للحربية، غير أن هذه الوزارة لم تكمل يومين حتى قامت الثورة، وتحرك الجيش بقيادة اللواء محمد نجيب، وسيطروا على بعض الأماكن العسكرية وقيادة الجيش، وأعلن المقدم أنور السادات البيان الأول للثورة يوم (2 ذي القعدة= 23 يوليو).
واستطاع تنظيم الضباط الأحرار تقويض النظام القائم في ساعات معدودة، واعتلت حركة الجيش قيادة السلطة في البلاد، وقدم اللواء نجيب إلى رئيس الوزراء محمد نجيب الهلالي طلبات الجيش، وهي: تكليف السياسي المخضرم علي ماهر بتشكيل وزارة جديدة، وتعيين اللواء محمد نجيب قائدا عاما للجيش، وطرد ستة من حاشية الملك؛ فرفع رئيس الوزراء هذه الطلبات إلى الملك، فوافق عليها، ثم خُلع الملك فاروق بعد أربعة أيام من قيام الثورة، وغادر الملك وأسرته مصر واتجه إلى إيطاليا، وأُعلن أحمد فؤاد الثاني ملكا على مصر، تحت إشراف مجلس الوصاية.
ولعل نجاح حركة الضباط الأحرار في القيام بانقلابها الناجح، واستطاعتها السيطرة على الحكم وخلع الملك، رغم انكشاف بعض أفرادها قبل القيام بالحركة، وصغر عدد ورتب الضباط القائمين بها، واقتصارهم على بعض الأسلحة دون غيرها -يعود إلى استفادتها من بعض الإمكانات المؤسسية المتاحة لها كتنظيم عسكري؛ حيث قصرت الحركة أهدافها في تحقيق الانقلاب على احتلال أهداف عسكرية محددة هي مبنى قيادة الجيش ومعسكرات العباسية وألماظة، فضلاً عن هدف مدني واحد هو مبنى الإذاعة.
كما أن استقلال الضباط عن الحركة الحزبية مكنهم من التحرك باسم المؤسسة العسكرية، فاستقطبت بذلك ليلة الثورة قسما من الضباط غير المنضمين إليها، مثل: العقيد أحمد شوقي الذي انضم قبل قيام الثورة بست ساعات؛ ثقة منه في اسم محمد نجيب.
كذلك أفاد في فاعلية التحرك استغلال الضباط وضعهم الوظيفي بالجيش، فجرى التحرك في شكل تعليمات تنفيذية، دون إدراك المأمورين بالهدف وراء ذلك، فمثلا يوسف صديق أحد الضباط المشاركين في الثورة أظهر لجنوده أنهم يقومون بعمل خطير لصالح الوطن، ولم يدرك هؤلاء أنهم يقومون بانقلاب عسكري، يستهدف السلطة وخلع الملك، ولعل بعضهم ظن أنه يتحرك تنفيذا لأوامر الدولة وليس العكس. يضاف إلى ذلك أن مخططي حركة يوليو حرصوا أن يجذبوا بعض أصحاب الرتب المعتبرة نسبيا لملء الفراغ في القيادة، فجاء اختيار اللواء محمد نجيب ليرأس الحركة؛ لما يتمتع به من رتبة عالية وسمعة طيبة في الجيش، كما أنه شخصية معروفة للمدنيين.
قوانين الثورة الجديدة
اتخذت الثورة عددا من الإجراءات المحققة لأهدافها السياسية والاجتماعية التي تبنتها، وفي دعم سلطتها الجديدة وتثبيت أركانها، فأصدرت بعد أيام من قيامها أمرا بإلغاء الألقاب، ثم أصدرت قانون تطهير الإدارة الحكومية.
وقد قام اللواء نجيب بتشكيل وزارة جديدة (18 من ذي الحجة= 7 من سبتمبر) أصدرت بعد يومين من تشكيلها قانون الإصلاح الزراعي الذي حدد الملكية الزراعية، وكان هذا القانون إجراء ثوريا ذا صلة مباشرة بجوهر المشكلة الاجتماعية القائمة وقتها، وأوجد شعبية كبيرة للثورة في الريف. أما القانون الآخر الذي أصدرته الوزارة فهو قانون حل الأحزاب.
كان دستور 1923 يشكل عائقا أمام عدد من القوانين التي تصدرها الثورة، حيث عُرضت هذه القوانين على المحاكم، ودُفع بعدم دستوريتها، كما أن القوانين كانت تصدر بأوامر ملكية من هيئة الوصاية دون عرضها على مجلس النواب لإقرارها؛ لأن المجلس حل قبل قيام الثورة، وهذا الأمر يشكل تهديدا على شرعية الثورة الوليدة؛ لذلك ألغت قيادة الثورة دستور 1923م ببيان أعلنه القائد العام للجيش في (23 من ربيع الأول 1372هـ= 10 من ديسمبر 1952م).
وكان أهم قرارات الثورة في (6 من شوال 1372هـ= 18 من يونيو 1953م) حيث أصدر مجلس قيادة الثورة قرارا بإلغاء النظام الملكي، وإعلان النظام الجمهوري، واستقالت وزارة محمد نجيب، وشُكلت وزارة جديدة ضمت عددا كبيرا من العسكريين، وأصبح نجيب رئيسا للجمهورية، ورئيسا لمجلس قيادة الثورة، ورئيسا للوزراء، وكان أول قرار وقعه الرئيس نجيب مرسوم ترقية الرائد عبد الحكيم عامر إلى رتبة اللواء، وتعيينه قائدا عاما للجيش.
حركة المدفعية والفرسان
عندما قامت ثورة يوليو لم يكن لتنظيم الضباط الأحرار خريطة تنظيمية ترسم الأبنية ومستويات العمل والعضوية وتحدد الاختصاصات وطريقة اختيار القيادات، فلم يظهر من الناحية التنظيمية إلا الهيئة التأسيسية قبل ثورة يوليو، التي ما لبثت أن اتخذت اسم مجلس قيادة الثورة، وتُتخذ فيها القرارات بالأغلبية؛ لذلك وجد كثير من أعضاء التنظيم أنفسهم أمام أحد خيارين: إما أن يرتبطوا بواحد من قيادات الحركة وبخاصة جمال عبد الناصر؛ فيكتسبوا بهذه الصفة ووجودهم السياسي النشط، بينما وجد آخرون أنفسهم في وضع لا يسمح لهم بذلك وبالتالي لم يكونوا إلا مجرد ضباط جيش، لا إسهام لهم في رسم السياسات؛ لذلك بدأ يظهر تيار معارض لقيادة الثورة في سلاح المدفعية وسلاح الفرسان، ففي المدفعية استمرت اجتماعات الضباط الأحرار في السلاح بعد الثورة تناقش مواقف القيادة، واشتد نقد تصرفات عدد منها، وطبعوا منشورات تطالب بتكوين قيادة جديدة عن طريق الانتخاب الحر، فانتهى الأمر باعتقال هؤلاء الضباط في (جمادى الأولى 1372هـ = يناير 1953م).
وفي سلاح الفرسان والمشاة تحدث الضباط عن جمعية عمومية تُعرض عليها القرارات الكبيرة التي تتعلق بالبلاد حتى لا ينفرد عشرة أو أكثر بإصدار مثل هذه القرارات، وطالبوا بإجراء انتخابات لمجلس قيادة الثورة، واقترح بعضهم أن يشمل المجلس أعضاء دائمين وآخرين منتخبين، كما طالب البعض بأن يكون مجلس إدارة نادي الضباط الذي حله الملك هو الممثل المنتخب لحركة ضباط الجيش.
وتقدم هؤلاء بطلب إلى محمد نجيب لتنظيم هيئة الضباط الأحرار، وتكوين رئاسة لها بالانتخاب من مندوبي الأسلحة، وذلك في (ذي الحجة 1371هـ= أغسطس 1952م) فلم تستجب قيادة الثورة لذلك، وما لبثت أن أصدرت قرارا بإلغاء تنظيم الضباط الأحرار بحجة أنه استنفد أغراضه، فتمسك الضباط بتنظيمهم وكونوا لجانا منهم عن طريق الانتخاب. فلما علمت القيادة بذلك نقلت بعض موجهي الحركة خارج أسلحتهم، واعتقلت البعض، فتجمع حوالي أربعمائة ضابط في ميس المدفعية مقررين الاعتصام حتى يُفرج عن زملائهم فاعتُقل البعض وحققت معهم قيادة الثورة، وكانت تلك الكلمة الفصل في وجود تنظيم الضباط الأحرار. وشهد (شهر جمادى الأولى 1372هـ = يناير 1953م)، أي بعد ستة أشهر من قيام الثورة، حملة اعتقالات بين الساسة المدنيين، وقرارا بحل الأحزاب، واعتقال ومحاكمة بعض ضباط المدفعية، وحل تنظيم الضباط الأحرار.
أزمة مارس
لم تقض حملة اعتقالات الضباط المعارضين وحل تنظيم الضباط الأحرار على حركة المعارضة في الجيش، حيث تصاعدت المعارضة بداخله في سلاح الفرسان في (رجب 1373هـ= مارس 1954م)، متواكبة مع حركة الصراع الحزبي ضد قيادة الثورة، وصفّيت الحركتان في أوقات متقاربة.
فقد تشكل مجلس قيادة الثورة من أحد عشر عضوا رأسه محمد نجيب، وكانت القيادة الحقيقية فيه لجمال عبد الناصر رئيس اللجنة التأسيسية للضباط الأحرار، وبدت في المجلس زعامتان، اكتسبت فيها زعامة محمد نجيب تأييد شعبيا كبيرا بسبب الإنجازات التي حققتها الثورة في بداية عهدها، أما زعامة عبد الناصر فقد استمرت علاقته الوثيقة بالضباط سواء في قيادة الثورة أو بين الضباط الأحرار.
وقد ازدادت السلطة الفردية لعبد الناصر مع تقدم انتصار مجلس قيادة الثورة على معارضيه من الأحزاب المختلفة، حيث وقف غالبية المجلس مع عبد الناصر في مواجهة الحركة الحزبية باستثناء يوسف صديق وخالد محيي الدين، وكان دور هذه الأغلبية يضعف بقدر ما كانوا يتغلبون على الحركة الحزبية.
وفي أزمة الصراع على السلطة بين نجيب وناصر، وجد نجيب نفسه رئيسا بلا صلاحيات بل ويتعرض إلى مضايقات تصل إلى حد الإهانة من بعض أعضاء المجلس، فقدم استقالته إلى مجلس قيادة الثورة في (19 من جمادى الآخرة 1373هـ= 22 من فبراير 1954م) فقبل المجلس استقالته، فقامت المظاهرات المؤيدة له التي قادها الإخوان المسلمون وكل القوى المناوئة للاستبداد والتسلط العسكري، وطالبوا بعودة الحكم المدني، كذلك تحرك سلاح الفرسان، وطالب بعودة نجيب.
وأمام هذا الإصرار الشعبي عاد نجيب إلى الحكم مرة ثانية، وأعلن إجراءات لوضع دستور وعودة الحياة المدنية، إلا أن عبد الناصر أدار معركة أخرى في الخفاء تخلص خلالها من مؤيدي نجيب في الجيش، ودبرت أعمال شغب وإضرابات في عدد من أحياء القاهرة، وقامت مظاهرات مدفوعة الأجر تندد بالحكم الديمقراطي وتدعو إلى سقوط نجيب، واقتحمت مجلس الدولة، واعتدت على رئيسه الفقيه الدستوري الكبير عبد الرزاق السنهوري بالضرب، وحلّت جماعة الإخوان المسلمين، وبذلك استطاع عبد الناصر أن يجرد محمد نجيب من مؤيديه قبل معركته معه التي انتهت في (11 من شعبان 1373هـ= 17 من أبريل 1954م) باستقالة نجيب، وتولي عبد الناصر مكانه.
السودان والجلاء
كان موضوع السودان هو نقطة الخلاف الدائمة بين المفاوضين المصريين والبريطانيين لمدة تزيد على الثلاثين عامًا، فمصر تعتبر السودان جزءا منها لا يمكن التنازل عنه، وبريطانيا تريد فصل الاثنين؛ لذلك رأى رجال الثورة حل مشكلة السودان حتى يتمكنوا من التفاوض مع الإنجليز للجلاء عن مصر، فوافق الزعماء السودانيون على هذا الأمر، ودمجت الأحزاب السودانية التي تنادي بالاتحاد مع مصر في الحزب الوطني الاتحادي.
وكان على السودانيين أن يقرروا مصيرهم، إما بالاتحاد مع مصر أو الاستقلال، إلا أن سياسة بعض رجال الثورة خاصة "صلاح سالم" المسئول عنه الملف السوداني أدت إلى سقوط وزارة إسماعيل الأزهري المؤيدة للاتحاد مع مصر، وتألفت وزارة جديدة كانت تطلب الاستقلال، وبذلك انفصل السودان عن مصر.
وقامت الثورة بالتفاوض مع الإنجليز للجلاء عن مصر حتى جلت نهائيا عن مصر في (10 من ذي الحجة 1375هـ= 18 من يوليو 1956م). وانتقد الكثيرون اتفاقية الجلاء؛ لأنها أبقت مصر مرتبطة بالإنجليز، وضمنت لهم العودة إلى قواعدهم العسكرية في حالة حدوث اعتداء على مصر أو تركيا، وكان أكثر المنتقدين لها الإخوان المسلمين، وهو ما أوجد فجوة عميقة بين الجانبين.
…إن ثورة يوليو وأحداثها غزيرة؛ لأنها ارتبطت بمرحلة من التطور في مصر والعالم العربي، تصاعدت فيها موجات التحرير من الاستعمار والرغبة في الاستقلال، وهو ما عملت الثورة على تدعيمه ومساندته؛ فأيدت حركات التحرر العربي وغيرها.
أما على صعيد الداخل فكان للثورة أنصارها وخصومها، ضحاياها والمنتفعون منها، وكل يتخذ موقفه من تجربته التاريخية وملاصقته للحدث، وما تعرض له بسبب مواقفه. وإن كانت الثورة نجحت في إقصاء الملك عن عرشه وإقامة الجمهورية وإجلاء الإنجليز، وتحقيق نوع ما من العدالة الاجتماعية استفادت منه بعض طبقات الشعب خاصة المعدمة والفقيرة، فإن الديمقراطية وحرية الإنسان وكرامته كانت أولى ضحاياها؛ حيث نحّت الثورة الحياة الليبرالية التي اتسمت بها الحياة السياسية قبل الثورة، والتي تعد من أزهى عصور الديمقراطية في مصر، وجاءت بالحكم الفردي العسكري؛ حيث ذابت المؤسسات والقوى السياسية في شخص الزعيم، فأصبح هو القائد والمؤسسة.