يوليو
والنهضة الثانية لمصر
قامت ثورة 23 يوليو في مصر العربية عام 1952 في وقت كان العالم فيه قد دخل عصرا جديدا عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945، وكان الوطن العربي فيه قد بدأ مرحلة جديدة شهدت تدفق موجة التحرير فيه وفي أجزاء واسعة من قارتي آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، كما شهدت حدوث نكبة فلسطين عام 1948، وكانت مصر العربية فيه تعيش جيشانا ينذر بتفجر ضخم وحملا يبشر بولادة جديدة.
فعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية كان خارجا من حرب ضروس انطوت على مآس وفواجع لم يعرف التاريخ لها مثيلا من قبل، وانطوت في تضاعيفها على ثورة ضخمة هي عند البعض أكبر ثورة عرفها الإنسان منذ فجر تاريخه في اتساعها.
وتصدرت في هذا العالم المعاصر دولتان أعظم هما الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، بعد أن أنهكت الحرب بريطانيا وفرنسا وبقية دول أوروبا الاستعمارية، وبرزت هاتان الدولتان كقوى جديدة، وأصبح من الملامح الواضحة للصورة الدولية حالة التوتر والخوف المعروفة باسم الحرب الباردة القائمة بين الدولتين الأعظم في ظل مجمع للدول العالمية الكبرى تمثله الأمم المتحدة[1]
أما عن صورة مصر الاقتصادية والاجتماعية عشية ثورة 23 يوليو والتركة المثقلة التي تسلمتها القيادة الثورية ليلة استيلاءها على السلطة، فيمكن في ايجاز شديد أن ترسم الملامح الأساسية لتلك الصورة على النحو التالي:-
1- السيطرة الاستعمارية:
فلم تكن السيطرة الاستعمارية احتلالا عسكريا فحسب، بل أن الثمانين ألف جندي بريطاني كانوا في الواقع يحرسون عملية استغلال اقتصادي بشع يتولاها الاستعمار العالمي.
فكان النظام المصرفي بأكمله، ابتداء من البنك المركزي "البنك الأهلي" حتى اصغر بنوك الرهونات، تحت سيطرة راس المال الأجنبي، وكذلك كل نشاط التأمين في مصر، ومعنى ذلك أن المال - عصب الحياة الاقتصادية- لم تكن تحكم حركته قرارات مصرية، ومعناه أيضا أن مدخرات المصريين التي كانت تتجمع لدى البنوك وشركات التأمين كانت تحت تصرف الأجانب، يحولونها إلى الخارج أو يوجهونها لتمويل نشاط الأجانب المتمصرين في مصر، ولم يكن يحظى بقروض البنوك من المصريين إلا الإقطاعيين وكبار الرأسماليين المرتبطين بالمصالح الأجنبية، حتى يستطيع الاستعمار من اخذ نصيبه مما استولى عليه أعوانه من عرق الفلاح والعامل المصري، وهكذا كان طريق التنمية مسدودا أمام الرأسمالية الوطنية التي كانت تعانى الأمرين في الاقتراض من البنوك الأجنبية، بل أمام الدولة ذاتها التي لم تكن تملك - حتى لو أرادت- الموارد الكافية لتمويل أي برنامج إنمائي.
كذلك كانت التجارة الخارجية حكرا على الأجانب وقلة من المصريين تدور في فلكهم، فأهم الصادرات وهو القطن (حوالي 85% من الإجمالي) بيد بيوت التصدير الأجنبية التي كانت تسيطر في نفس الوقت على المحالج والمكابس، والواردات تمر حتما بالتوكيلات المحلية للشركات الأجنبية، ووكالات الاستيراد "والقومسيونجية" وكانت التجارة الخارجية تمثل في ذلك الوقت حوالي 50% من الدخل القومي، ومعنى ذلك أن نصف الدخل القومي لا تؤثر فيه يد وطنية ولا سياسة وطنية.
وكانت مصادر الطاقة - وهي أساس التصنيع وتطوير الزراعة- بيد الأجانب، فاستخراج البترول احتكار لشركة شل واستيراد البترول ومنتجاته وتوزيعها بيد شركات البترول العالمية أو فروعها المحلية، ومحطات الكهرباء الحرارية الهامة بيد شركات فرنسية أو بلجيكية.
وكان للمصالح الاستعمارية الوزن الأكبر في قطاع النقل فقناة السويس دولة داخل الدولة وشركات النقل البحري والنقل النهري يسيطر عليها الأجانب، والنقل العام بالقاهرة تحكمه شركة بلجيكية والنقل الجوى يساهم فيه البريطانيون.
وكان الجزء الأكبر من الصناعة - رغم نموها المحدود- بيد الأجانب أو ساهم فيه الأجانب المتمصرون، حتى صناعة النسيج المصرية التي أقامها بنك مصر، دخلت مرحلة التعاون مع راس المال الأجنبي.
وكان للأجانب والمتمصرين النصيب الأساسي في التجارة الداخلية فتجارة الداخل في القطن يشارك فيها الأجانب وخاضعة لتوجيهات بيوت التصدير الأجنبية والبنوك الأجنبية التي تمولها وتجارة الجملة - حتى في منتجات الصناعة المصرية- يسيطر عليها أجانب ومتمصرون، والمحلات التجارية الكبرى كلها محلات أجنبية، ورغم اعتماد الاستعمار في استغلال الفلاحين أساسا على طبقة كبار الملاك والإقطاعيين، فقد دخل بعض الأجانب في مجال الزراعة، ففي سنة 1950، كان من بين الستين شخصا الذين يملكون أكثر من ألفي فدان ويسيطرون على 5% من إجمالي المساحة الزراعية 18 أجنبيا.
2- الإقطاع:
عمل الاستعمار البريطاني منذ احتلاله البلاد عام 1882 على تأكيد مركز كبار الملاك والإقطاعيين وزيادة عددهم، فأقر لهم القانون بحق الملكية الفردية على أراضى مغتصبة ولم يكن لهم عليها إلا حق الانتفاع , ووزع عليهم أملاك قادة الثورة العرابية، وباع لهم بأبخس الأثمان أملاك الخديوي إسماعيل "الدائرة السنية"، ومكن لهم من الاستيلاء على أراضى الحكومة بدعوى استصلاحها، وجعلهم العمود الفقري للسلطة السياسية والأجهزة الإدارية، ذلك أنهم كانوا، كطبقة، أداة الاستعمار في إرهاب الفلاح واستغلاله.
أما عن صورة الإقطاع عشية ثورة 23 يوليو، فقد كان عدد من يملكون أكثر من 50 فدانا يزيد قليلا عن 11.800 فرد، وكانوا يملكون 38% من المساحة المنزرعة، بمتوسط يقارب 200 فدان للفرد الواحد، فإذا أخذنا في الاعتبار ملكية العائلة لما هو معروف من أهميتها في الأوضاع الإقطاعية، وصلت أرقام الملكية إلى حدود خيالية، وكان كبار الملاك الإقطاعيين يسيطرون على الحياة السياسية، فالدستور كان يشترط لعضوية مجلس الشيوخ ملكية أرض لا تقل ضريبتها السنوية عن 150 جنيها.
3- الرأسمالية الكبيرة:
لقد حاولت الرأسمالية الوطنية غداة ثورة 1919 أن تبنى صناعة مصرية وأن تدعم التجارة المصرية وتوجد نشاطا مصرفيا مصريا, ورفعت شعار تفضيل المنتجات المصرية في الاستهلاك وتشجيعها، ولكن الاستعمار - مستعينا بالحكومة- حارب هذه الجهود، وفي الوقت ذاته وارب الاستعمار الباب لعدد من كبار الأثرياء ليشتغلوا بالأنشطة غير الإنتاجية، أو بتلك المرتبطة بعملية الاستغلال الاستعماري لموارد البلاد، تجارة الداخل في القطن، المقاولات، عقود التوريد لقوات الحلفاء، وأمام تصاعد حركة التحرر الوطني في الأربعينات لجأت بعض الشركات الأجنبية إلى استخدام بعض الواجهات المصرية، فاحتل عدد من "الباشاوات" مقاعد مجلس الإدارة، بل واقتنى بعضهم شيئا من أسهم تلك الشركات، وكذلك تحولت فروع بعض الشركات الأجنبية إلى شركات مساهمة مصرية، وسرعان ما رفعت شعار حماية الصناعة المصرية لتفرض الجمارك العالية التي تمكنها من البيع بأسعار مرتفعة، كما دخلت فيما بينها في اتفاقات احتكارية لتحول دون أي انخفاض في الأسعار، وهكذا كانت الرأسمالية المصرية في مجموعها على درجة من النمو ضعيفة إلى حد بعيد، كما كان في داخلها انقسام واضح بين الرأسمالية الوطنية ضحية القهر والاستغلال والرأسمالية الكبيرة التي تدين بالولاء للمستعمر