في مصر وبعض الدول العربية الأخرى يثير بعض الغلاة من ذوي الثقافة المحدودة من ناظمي وملحني ومؤدي الأغنية في تلك الأقطار إقليمية مريضة حول الأغنية العربية فيقولون بوجود أغنية سورية وأخرى مصرية وثالثة تونسية الخ لم تسفر عن شيء سببها الرئيسي هو عدم وجود أغنية قطرية بالمعنى الذي أراده هؤلاء وكما يعرف الدارسون لفن الغناء العربي بصورة عامة لا توجد أغنية سورية وأخرى عراقية وثالثة أردنية الخ وإنما هناك لون سوري وآخر تونسي وثالث خليجي الخ تنبثق كلها من ينبوع واحد هو الأغنية العربية ولو سلمنا جدلاً بما يقوله المتحمسون من النقاد وغير النقاد من صانعي الأغنية في بعض الأقطار العربية لوجب علينا أن نقول في الشعر العربي هذا شعر سوري وهذا شعر فلسطيني وذاك لبناني الخ مع أن الشعر عرف منذ الجاهلية وحتى اليوم باسم الشعر العربي لأنه نظم بالعربية ولأن منشديه ومبدعيه كانوا عرباً ولأنه عالج على المدى قضايا اجتماعية وعاطفية ووطنية وقومية تخص الأمة العربية بعيدا عن كل إقليمية تمس شعورهم في وحدتهم كأمة لها تاريخها وحضارتها كذلك الأمر بالنسبة لواقع الأجناس الأدبية كافة فالكتاب العرب منذ أقدم العصور لم يخاطبوا القارئ العربي في قطرٍ محدد وإنما القراء العرب في الوطن العربي وما أقوله عن الأجناس الأدبية ينسحب أيضا على الفن التشكيلي الذي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالموسيقى والفنان العربي التشكيلي انطباعياً كان أم واقعياً أم سريالياً ينقل خياله الفني بالألوان الموضوع العربي الذي يتناوله بأسلوبه الخاص وباتجاهه الفني ليترجم واقعاً أو بيئة أو رمزاً عربياً للعرب جميعاً في كل مكان بلغة إنسانية تنبع من واقعه كعربي وليس من انتمائه الإقليمي كسوري أو مصري أو جزائري الخ وحتى لو أن هذا الفنان العربي عالج موضوعاً بعيداً عن بيئته العربية فإنه يعالجه بالروح والرؤيا العربية التي تفجر إبداعه كعربي والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصى
من هذا الذي سردته أصل إلى موضوع الأغنية السورية أو المصرية أو المغربية الخ التي هي في واقع الحال أغنية عربية لا تخرج بنظمها وتلحينها وأدائها عن أساليب النظم والتلحين والأداء المعروفة في الوطن العربي وقد تكون للأغنية السورية الشعبية خصائص صبغتها بلون بيئي معين فأعطتها صفتها الإقليمية وهذه الخصائص نجد لها مثيلاً في الغناء الشعبي في كل قطر من أقطارنا العربية ولا تخرج من حيث الصياغة عن فن صياغة الأغنية الشعبية في المذهب والأغصان واللازمة الموسيقية الوحيدة وهي اليوم ألوان من الغناء الشعبي الذي لم يعد بحكم وسائل الاتصال الحديثة في الإعلام وقفاً على تلك الأقطار وإنما ملكاً للشعب العربي كله وإذا أضفنا إلى هذا عمليات العرض والتبادل التي تتم في المهرجانات الموسيقية الشعبية في الأقطار العربية للأغنية الشعبية التراثية والأخرى الدارجة أمكن القول إن هذه الألوان في الغناء الشعبي للأقطار العربية لا يمكن نعتها إقليمياً بالسوري أو التونسي أو المصري وما إلى ذلك لأنه في واقع الحال تراث الشعب العربي وميراثه الأكثر ألقاً وحباً لدى الجمهور وخير مثال أسوقه من تلك المهرجانات الأغنيات التي قدمتها الأقطار على أنها من تراثها الشعبي فأغنية طالعة من بيت أبوها يقول عنها السوريون سورية والعراقيون عراقية والفلسطينيون فلسطينية كذلك الأمر بالنسبة لأغنية يا سمك بني
أما أنواع الغناء العربي الأخرى كالموشحة والقصيدة والدور والطقطوقة والمواليا والغناء بكلمة يا ليل فهي واحدة في قوالبها الفنية وإن طرأت على بعضها بعض التغييرات في أسلوبها التلحيني بفضل المبدعين كالموشحة التي انتقلت عبر القرون الخالية من الأندلس إلى الوطن العربي كله والموشحة أغنية للمجموعة وعندما تناولها المبدعون بالمعالجة الفنية لتخليصها من الرتابة التي لازمتها من ولادتها اتصفت بصفات جديدة ميزتها عن الأصل كما في الموشحة الحلبية وشقيقتها المصرية والأخرى الحديثة التي نمت وترعرعت على يد محمد محسن حليم الرومي والأخوين رحباني ومحمد الموجي ورغم كل هذه الابداعات فإن هذه الموشحة ظلت هي نفسها التي يتغنى بها المغرب و المشرق العربيين وإن تطورت واختلفت أسباب معالجتها أما الدور كفن غنائي فهو عربي مصري نظما ولحنا وأداء ولكن هل ظل الدور حبيس الحدود الإقليمية المصرية الشواهد التي بين يدينا على الرغم من غزارة عطاء الملحنين المصريين فيه تدل على أن كبار الرواد من الموسيقيين غير المصريين قد عالجوه معالجة لا تقل في القيمة الفنية من معالجة المصريين له من مثل التونسي خميس التزمان والفلسطيني يحيى السعودي والسوري بكري الكردي وغيرهم من الملحنين في سائر الأقطار العربية فهل نقول بعد هذا كله عن فن الدور إنه مصري وإنه لا يجب أن ينظمه ويلحنه ويؤديه سوى المصريين وإلا لوجب علينا أن نقول في الشعر العربي إن شعر الجواهري عراقي وشعر بدوي الجبل سوري وشعر حافظ إبراهيم مصري الخ وإن جميع الشعراء العرب لا علاقة لهم بالعرب والعروبة إلا باللغة التي صاغوا ونظموا بها شعرهم
مرة أخرى نصل إلى حقيقة واضحة لا تقبل الجدل هي أن هناك أنواعا من الغناء العربي يغنيها الشعب العربي وهذه الأنواع عرف بعضها في أول الأمر في قطر عربي ما قبل أن تعم وتنتشر كما هو الأمر في الموشحة الأندلسية والدور المصري والمونولوج المستورد من الغرب وكان العرب منذ أقدم العصور لا يعرفون سوى إنشاد الشعر الذي انبثق في قلب الجزيرة العربية وعندما أبدع الأندلسيون الموشحات ومن بعد الأزجال ليتخلصوا من الرتابة اللحنية في إنشاد القصيدة فإن هذين النوعين من النظم آنذاك أصبحا من أعمدة النظم الغنائي كذلك الأمر بالنسبة للدور الذي لا يزيد تاريخ ظهوره وإنشاده عن مائتي سنة إذا تقرينا أعمال الملحنين الذين لحنوا القصيدة العمودية من تقليدية ورومانسية ووصفية ووطنية قومية ودينية والتي نظمت أصلاً بعيداً عن الهدف الغنائي لوجدنا الملحنين الذين لحنوا المئات منها قد اختاروا ما لحنوا منها لشعراء عرب من مختلف الأقطار العربية ومن شعراء المهجر أيضا ولوجدنا أنهم اتبعوا في البداية أساليب مختلفة وتائهة انصبت كلها على تنغيم الكلمة لافتقار تلحين القصيدة إلى قالب فني يعين الملحن على التلحين إلى أن توصلوا إلى الأسلوب الأفضل والأقوى عبر عشرات السنين وذلك بعد أن توصلت فئة من شعراء الأغنية الذين اهتموا بالقالب الفني إلى صيغة سهلت عمل الملحنين وعملية التلحين فاستقام قالب تلحين القصيدة على الصورة التي يتبعها الملحنون العرب كافة إن جميع الملحنين من جميع الأقطار العربية ساهموا بطريقة أو أخرى في الوصول إلى قالب القصيدة المعمول به اليوم والذي ثبّت أركانه على مدى ما يزيد من نصف قرن متواصل رياض السنباطي