عكف جورج اوريل على روايته الساخرة التالية ( 1984) او امثولته الرمزية الكبرى التي كرست اسمه كواحدمن اهم ادباء القرن العشرين.
وقد أكمل اورويل كتابة هذه الرواية عام 1948 فما كان منه الا ان عكس الرقمين الاولين في التاريخ وجعل هذا التاريخ المستقبلي عنوانا لروايته التي اثارت ولا تزال تثير الكثير من الجدل حتى اليوم لانها تمثل نوعا من اليوتوبيا المقلوبة وتسجل نبوءة اورويل التحذيرية مما سيؤول اليه حال النظام السياسي وحذر من فساد اللغة
.
[size=16]
[/size]
1984 رواية تدور احداثها في دولة خيالية تدعى ( اوشانيا) وهي اكثر الاسماء ملاءمة لدولة بريطانيا ذات التاريخ البحري الشهير لان الاسم مشتق من كلمة محيط الانكليزية وهي دولة يحكمها حاكم فردي هو (الاخ الاكبر) يتربع على قمة الحزب الذي يتكون من طبقتين هما طبقة الحزب الداخلي او التنظيم الاعلى للحزب وطبقة الحزب الخارجي او الجموع المنخرطة فيه وتدير شؤون الدولة مجموعة من الوزارات ذات الاسماء الغريبة مثل ( وزارة الحقيقة ) و ( وزارة السلام ) و( وزارة الوفرة). وفي ( وزارة الحقيقة) يعمل بطل الرواية المضاد ( ونستون سميث) وتبدأ احداث الرواية عندما يكتشف ( ونستون ) ان ثمة كذبة اساسية في التاريخ الذي تصوغه ( وزارة الحقيقة ) التي يعمل فيها , ومهمتها بالطبع نشر الكذب , وهكذا تتهاوى نظرية ( اوشانيا ) في نظره ويبدأ في البحث عن شيء اخر يتسم بالصلابة والصدق ليتعلق به فلا يجد الا ان يخلق بنفسه هذا الدليل من خلال كتابته لمذكرات او يوميات يسجل فيها ( الحقيقة) وهو امر محظور قطعيا يتم القبض على ( ونستون ) ويتعرض للتحقيق والتعذيب في (وزارة الحب) ويعيش تجربة غرفة التعذيب ( الغرفة رقم 101) على يدي ا قرب اصدقائه اليه والذي كان يعده مرشده وراعيه ( اوبراين ) في البداية يصمد ( ونستون ) و يرفض خيانة صديقته وحبيبته ( جوليا ) او الاعتراف عليها.
لكن مثابرة ( اوبراين ) وبراعته في التحقيق تقوده الى اكتشاف ان لكل فرد وسيلة التعذيب الخاصة به , او بالأحرى نقطة ضعفه وكعب اخيل الخاص به والتي تقهر قدرته على المقاومة وكانت الفئران هي اكثر ما يخافه ( ونستون ) وما ان وضعه في زنزانة مليئة بالفئران الجائعة حتى تحطمت قدرته على الصمود وصرخ صرخته الشهيرة التي اصبحت مثلا بعد ذلك ( لا تفعلوا ذلك بي افعلوه بجوليا) واعترف على حبيبته هو الاخر في غرفة التعذيب رقم (101) حيث يسلمهم جسد حبيبته ( جوليا).
في هذه الغرفة ينكسر ( ونستون) ويضطر الى خيانة حبيبته وتسليمها ويمكن اعتبار هذه الغرفة هي غرفة اعادة الانتاج والتأهيل للبشر كي يمكن اعادة استخدامهم من جديد وان بعد استلابهم وتحويلهم الى خرق رثة حيث ينتهي الى حال أسوأ من تلك التي بدأ بها وكأن الانسان يسير- في منظور اورويل - نحو التدهور المستمر وليس نحو الارتقاء والتطور.
لقد اقترح (اورويل ) من خلال روايته ( 1984) مفتاحا نقديا مبكرا للانظمة المعلوماتية وآليات التحكم بمصير الانسان عبر المراقبة الالكترونية وغسل الدماغ وكانت رواية ( 1984) بالتالي رؤية متقدمة حول تطور آليات الاستبداد وأساليب تدجين الانسان في ( مجمع ) الاخ الكبير.
وهذه الرواية رغم انها روجت كدعاية سياسية ضد الاتحاة السوفييتي ودول اوروبا الشرقية عكس ما تقتضيه بيانات الرواية الافقية في مجالات الاستبداد المتنوعة سياسيا وجغرافيا لكنها بدت من خلال دراسات نقدية وتحليلات مختلفة انها اشمل من هذه الدعايات التي لم تدرس الرواية الا وفق ثقافة التنكيل بالاخر.
يتوزع العالم في 1984 على ثلاث حكومات استبدادية متصارعة ويحاول (ونستون) التمرد على احدى هذه الحكومات التي تشوه الحقائق وتراقب حياة مواطنيها من خلال اجهزتها الاعلامية الحديثة بغية كتابة التاريخ بشكل يتلاءم مع سياساتها لكن شرطة الفكر تكتشفه وتعتقله ومعه المرأة التي احبها وتحتجزه في الغرفة( رقم 101) التابعة لوزارة الحقيقة بغرض اعادة تأسيسه بما ينسجم وسياسات الاخ الكبير الذي يحبه ( ونستون) ويتماهى معه بعد ان كرهه طوال حياته اي قبل الدخول الى الغرفة( رقم 101) من هنا تنجح الحكومة في القضاء عليه وتعيد الاعتبار له وفق مقاييس السياسات المتبعة في وزارة الحقيقة وتتلاشى بذلك شخصية ( ونستون) المستقلة .
يموت الانسان ويباد في هذه الرواية في الليل وفي النهار , تحت الاضواء على السرير , في العتمة من دون تقرير واحد عن ظروف الاعتقال يختفي الناس ببساطة وتتم السيطرة على ماضيهم لان السيطرة عى الحاضر والمستقبل من وجهة نظر الاخ الكبير لن تتم الا بالسيطرة على الماضي وتحويل لغة الناس المتبعة في الكلام والكتابة والتفاهم الى لغة مشفرة فاللغة هي الاداة الاساسية للهيمنة السياسية والاقناع والسيطرة وهي وسيلة تحقيق الهيمنة الشاملة على الواقع وعلى عقول المواطنين معا ان هدفها النهائي ليس تحقيق السيطرة على ما يستطيع الانسان الجديد التعبير عنه بل ان تصوغ كلية ما يستطيع قوله وما يمكنه التفكير فيه كذلك ان اللغة الجديدة هي التجسيد للغة المنتهكة لغة الحزب العارية من قدرة اللغة التمثيلية او التصويرية والوالغة في وظيفته الاقناعية وتحقيق الهيمنة.
والسؤال الذي ظل يتردد دائما على الالسنة هو : هل اصاب ( اورويل) في تنبوءاته والى اي مدى يتطابق العالم الذي وصفه في روايته( 1984) مع عالمنا الحالي ? ! لم يخطئ ( اورويل ) في تصور ما هو جوهري واساسي في عالمنا اليوم .. فما كان يعنيه اساسا هو مصير الانسان في عالم انهارت قيمه الاساسية وانحسر فيه دور الفرد الى حد كبير ان العالم الذي يصفه ( اورويل) هو العالم ( التوتاليتاري) هو تلك الماكنية السوداء التي تطحن ا لانسان وتغيبه وتعدم كل ابعاده بهدف ( تحريره ) و(تقدمه ) .. ولندن التي تدور فيه احداث الرواية هي العالم المعاصر الذي يمجد التقدم التكنولوجي ويسيطر على الطبيعة ويشجع الاستهلاك انها الحداثة بشكلها المرعب والقاتل فهي تفرض قيما جديدة تستعبد الانسان بدلا من ان تنمي لديه رغبة التحرر وهي قيم لا تختلف جوهريا عن القيم التي تسود عالم ( ونستون سميث) والتي تحولت الى شعارات يراها كل يوم في كل مكان : ( الحرب هي السلام ) ,( الحرية هي العبودية) ,(الجهل هو القوة) أليس ا نسان اليوم سجينا لذلك العالم المعاصر ? ( ان الطابع الحقيقي للحياة المعاصرة هو عريها وقتامتها واذاعانها وليس قسوتها واختلال أمنها ) هكذا يقول ( اورويل ) في روايته ( 1984) لقد وعى ( اورويل ) في وقت مبكر جدا خطر تلك الحياة المعاصرة على الانسان بل استطاع ان يحدد مصدر ذلك الخطر اي ذلك الاستسلام المريح ظاهريا لنظام تلك الحياة والاحتماء الوهمي بقيمها المزيفة .
</TD></TR></TABLE>
</TABLE>