..
وحشا أحدهما جيوبه
بالتبغ والبلح المجفف .. وأخذ الرجال الثلاثة يدخنون فى صمت وعيونهم إلى البحر والليل وكانت العاصفة تزداد عنفا ..
وكان هناك المسافر الوحيد فى هذا الزورق ..
وقد جلس قابعا منزويا فى الجزء الخلفى
الملاصق للدفة وعلى وجهه كل دلائل القلق والخوف الشديدين ..
وأخذ الزورق يتأرجح ويعلو به الموج ثم
يهبط .. ومع كل ذلك ظلت ملامح الرجال
ساكنة ووجوههم جامدة .. وكانوا قد طووا نصف الشراع .. وبدا النصف
الأعلى المنشور
كافيا لأن يدفع الزورق كالسهم فى مثل هذه الريح لو كانت الأحوال طبيعية ولكن صراع الموج كان
يعوق الإبحار .. وكان الزورق يبدو .. كأنه لا يتحرك من مكانه .. والبحر يزأر بعنف وكأن فى أعماقه
غيلانا تتقاتل .. وتجذب الزورق بسلاسل إليها ..
عاش الثلاثة رفقاء فى البحر .. وكانت حياتهم
ملتصقة بالبحر وممتزجة به .. وتحت سمائه يأكلون ويشربون .. وينامون .. وكانت صدورهم
المفتوحة وعضلاتهم وسواعدهم .. تزداد قوة وصلابة فى صراعهم مع الأمواج ..
وكان (مرسى) على غير عادة قد أخذ يجدف فى هذه الليلة لهول
البحر .. وكانت قوته وحده تعدل قوة رفيقيه .. ثم ترك المجداف لغيره وانتصب فى مؤخرة الزورق .. يرقب ما هناك ..
وبدت قامته الطويلة فى الليل كمارد أسود
..
كان فارع الطول عريض الألواح .. وكان يجيل عينيه
الحادتين فى أغوار البحر .. باحثا عن السفن التى تتحرك هناك ..
وكانت يداه تتحركان إلى الأمام والخلف ثم وضع
أحداهما فى جيبه وأشعل لنفسه سيجارة بعد أن أنحنى فى القاع ليكون بنجوة من الريح ..
وبدت عيناه حمراوين كوهج السيجارة التى
فى أطراف أنامله .. وكانت حياته صراعا
رهيبا كثيرة المخاطر .. وكانت المخاطرة تدفعه لمثلها أو أشد منها
حتى وجد نفسه
أخيرا يعيش فى حلقة مفرغة وكان الصيد ستارا لما يقوم به من أعمال خفية ولم يكن يؤمن إلا بالشىء
الذى سيحصل عليه هو مهما ركب فى سبيله من أخطار ..
كان أنانيا يدور حول نفسه والأنانية هى محور
حياته .
وكان عيشه فى البحر قد جعل جلده أسمر
كأنما سفعته النكبا .. وكان شعره مفلفلا قصيرا .. وترك شاربه مفتولا وكان يعنى به ويدهنه
ويجعله لامعا كلما أتيحت له الفرصة لأن يزهو بنفسه ..
وفجأة برز أمام عينيه شىء ضخم قام كالجدار
كأنما خرج من جوف البحر ولم يشاهد ( مرسى ) السفينة إلا وهى أمامه .. وكانت ضخمة من
عدة طوابق وتسير فى الخط المضاد .. وكانت تقترب منه كأنها متعمدة سحقه ولما أقتربت
توضحت معالمها وأبراجها وبدت أنوارها
الضئيلة تمسح الظلمة قليلا .. لاحت فى الليل الشديد السواد وهى
تتأرجح .. كحبات من الدر متناثرة على صينية من الزئبق الرجراج ..
وكان الموج يدفع السفينة الشامخة ويميل بها
إلى جانب ولكنها كانت فى جبروت واصرار
تلتزم خطها المرسوم .. وكان ( مرسى ) يدرك تماما أن السفينة لم تره
ولم تحس وجوده
إلى جانبها .. قط .. وهنا يكمن الخطر ويتجسم فى كل لحظة ..
وأحس بالدوامة تقترب وكان الزبد الأبيض
المتخلف من محرك السفينة والذى سيطويهم
يقترب منه .. رآه ( مرسى ) على مدى أمتار قليلة .. فامسك بالدفة فى
يده وصاح فى
رفيقيه وزأر ..
وأحس المسافر الوحيد بالخطر فتجمع على نفسه
مرعوبا ..
وزعق الرجال الثلاثة فى صوت واحد وقد تحولوا إلى
مردة .. على المجاديف ..
واندفع الزورق إلى الأمام ثم ارتد إلى
الخلف مرة أخرى وارتفع كالطود ثم أنخفض
وحسب الرجال أنهم قد غاصوا فى قاع البحر .. ثم تنبهوا إلى صوت
المحرك .. مع صفارة السفينة
..
وكأنما جاء النذير فى الليل العاصف فهدأت
المحركات .. ومرق الزورق من جانب السفينة وخرج إلى بحر الأمان ..
وران صمت كالجبال على الوجوه المنتفخة ..
والعيون المحدقة فى ذهول .. فقد نجوا من الموت باعجوبة .. أعجوبة الأعاجيب ..
وتغير وجه مرسى بعد أن أجتاز الخطر ..
وظهر عليه العبوس فقد أحس بأنها ليلة
مشئومة .. ولكن لهفته على أن ينجز مهمته .. جعلت قلبه الصلد لا يلين
ولا يعبأ بما
تأتى به الأخطار فراح يحدق إلى الأمام فى سكون .. وكأن البحر يضفى عليه إحساسا بالقوة وبالحرية ..
تحرك المجدافان فى الماء وأخذا يضربان صفحته فى قوة ..
وأحس ( شعبان ) أحد الملاحين بطقطقة فى
الحلقة التى تمسك بالمجداف .. وفى سرعة جذب المجداف من الماء وأخذ
يغير الحبل ..
وبقى المجداف الآخر يثير الزبد
..
واستدار الزورق لما نزل المجداف الثانى إلى الماء مرة
أخرى وأخذ يشق طريقه وبدت أضواء السفن من بعيد تتحرك فى بطء .. كأن المحركات تتقى شر العاصفة
ولا تدور إلا هونا ..