فى التاسع من ذي الحجة 1397هـ الموافق السبت 19 من نوفمبر1977 ، وبينما جموع المسلمين وأفئدتهم وعقولهم معلقة بجبل عرفات والمشعر الحرام في مشهد يباهي به الله سبحانه وتعالى ملائكته ، كانت أنظار العالم وآذانه مشدودة إلى حدث فريد وعجيب احتبست معه الأنفاس وساد الصمت المطبق والسكون الرهيب إلا من صوت باب طائرة يُفتح ، والرئيس الراحل أنور السادات يهبط سلم الطائرة ورئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغين واقف فاتحا ذراعيه مرحبا بضيفه الكبير ، بعدما كان السادات هو العدو الأول لهم وأول من أزاقهم مرارة الهزيمة في 6 أكتوبر 1973.وبجوار بيجين وقف موشي ديان ، وأرييل شارون ، وإسحق شامير رئيس الكنيست ، وعلى يساره وقفت جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل السابقة التي عبرت عن دهشتها الشديدة حين رأت السادات قائلة "هذا شيء لا يصدق".
لم يكن أكثر الحالمين خيالا يتنبأ بإمكان حدوث هذه الزيارة إلى درجة أن مناحيم بيجين - كما تقول بعض الروايات - أمر بعض القناصة بالاستعداد في شرفات المطار خوفا من أن يكون كل ذلك مؤامرة من السادات ، ومن الغريب أن ما كان يخشاه بيجين "المؤامرة" اعتبره بعض الحكام العرب على الجانب الآخر كذلك ، فلقد أحدثت زيارة السادات انفعالاً غير مسبوق بين الحكام والجماهير العربية ، وذهب الكثيرون إلى وصف السادات بالخائن والعميل وقد كان منذ 4 سنوات بطلا مغوارا.
وفي غياب لافت للسفير نبيل فهمي سفير مصر في واشنطن ، أحتفل معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى "Washington Institute for Near East Policy" يوم الأربعاء الماضي بالذكرى الـ30 لزيارة الرئيس السادات للقدس بينما كان أحمد ماهر سفير مصر السابق كان قد أفتتح نفس الاحتفالية عند ذكراها العشرين في نفس المعهد منذ عشر سنوات.
كانت البداية من خطاب السادات أمام مجلس الشعب في افتتاح دورته في 9 نوفمبر1977، الذي قال فيه "إنني أعُلن أمامكم وأمام العالم إنني على استعداد للذهاب حتى أخر العالم من أجل تحقيق السلام.. بل إننى أُعلن أمامكم وسوف يدهشون في إسرائيل وهم يسمعون ذلك.. إنني على استعداد للذهاب إلى القدس ومخاطبة الإسرائيليين في عقر دارهم في الكنيست الذي يضم نواب شعبهم من أجل تحقيق السلام".
وقامت الدنيا ولم تقعد.. وأصابت الصدمة والذهول البعض ، ولم يصدق مناحم بيجن ما سمعه ، وقرر باسم الحكومة الإسرائيلية إرسال دعوة للسادات عن طريق السفير الأمريكي.
ذلك الخطاب الذي حضره ياسر عرفات وقام مصفقا بكلتا يديه عند سماعه عبارة السادات ورصدته كاميرات التلفزيون مبتسما وفرحا ، وفي اليوم التالي أرسل الكنيست دعوته إلى السادات للحضور ، وأرسل عرفات لعناته إلى مصر والسادات.
جدل عربي
وقد انقسم الرأي العام العربي ولا يزال إزاء هذه الزيارة ، البعض نظر إليها على أنها شق للصف العربي وخذلان لرفقاء حرب وطعن في ظهر أشقاء ساندوا مصر في حرب 1973 بالعتاد الحربي والمال وسلاح البترول.
في حين نظر إليها البعض الآخر على أنها بُعد نظر، وتفكير سابق للعصر، وقراءة واعية لخريطة القوى بعد هزيمة 1967 وبعد عوامل الضعف التي بدأت تنخر في جسد الحليف السوفياتي، وبعد التوصل إلى قناعة أكدتها حرب 1973 مفادها "استحالة" تحقيق نصر عسكري حاسم على إسرائيل بسبب قوتها لا سيما النووية منها، فضلا عن الدعم الأميركي السياسي والعسكري والمالي اللامحدود.
ذلك الخطاب الذي حضره ياسر عرفات وقام مصفقا بكلتا يديه عند سماعه عبارة السادات ورصدته كاميرات التلفزيون مبتسما وفرحا ، وفي اليوم التالي أرسل الكنيست دعوته إلى السادات للحضور ، وأرسل عرفات لعناته إلى مصر والسادات.
معارضون
المعارضون لزيارة السادات للقدس لا يزالون متشبثين بموقفهم ، من بينهم على سبيل المثال الكاتب محمد حسنين هيكل الذي عرض جانبا من مبررات رفضه أثناء رده على سؤال لصديقه دنيس هاملتون رئيس مجلس إدارة وكالة "رويترز" عام 1982 أثناء رحلة مشتركة لهما في الأقصر وأسوان حينما رأيا أفواجا من السياح الإسرائيليين هناك.
كان سؤال هاملتون عن شعور المصري العادي حينما يقع بصره على هؤلاء الإسرائيليين يجوبون شوارعه ، فرد هيكل قائلا -كما ورد في كتابه زيارة جديدة للتاريخ- إن أكثر ما يحزنه منذ زيارة السادات للقدس هو أن التعبئة العقلية والفكرية والنفسية للشعب المصري قد جرى فكها أو على الأقل جرى التلاعب بها دون أن يجيئ السلام.
وذكرت قناة " الجزيرة" – عبر موقعها الرسمي "الجزيرة نت" – أن المهندس أبو العلا ماضي رئيس حزب "الوسط" - تحت التأسيس - وأحد الذين اعتقلهم السادات بسبب رفضهم لهذه الزيارة ، قال إنني بعد 30 عاما لا أرى أي نتيجة تحققت فلا الديمقراطية والحرية والرخاء الاقتصادي التي بشرنا بها السادات تحققت ، ولا الأرض العربية في الجولان وفلسطين قد استعيدت ، وحتى سيناء التي عادت لمصر تسلمناها منقوصة السيادة.
مؤيدون
على النقيض من ذلك يقف حسين عبد الواحد نائب رئيس تحرير صحيفة "أخبار اليوم" ، فيعتبر أن الكثيرين الذين نظروا إلى هذه الزيارة على أنها "تحول إستراتيجي" في سياسة مصر الخارجية تسبب في إخراجها من معادلة الصراع العربي الإسرائيلي مخطئون.
وبرر عبد الواحد ذلك بقوله ، إن هذه الزيارة لم تكن توجها "إستراتيجيا" بقدر ما كانت خطوة "تكتيكية"، وفترة راحة بعد أربعة حروب "لالتقاط الأنفاس"، ريثما تأتي أجيال عربية قادمة عندها القدرة والرغبة على مواصلة الصراع.
وفي اعتقاده أن السادات في ذلك الوقت قرأ أوضاع المنطقة العربية والنظام الرسمي العربي وتوقع بأنه إذا "بردت" القضية بعد "تحريكها" في حرب 1973 فإن الجمود المفضي إلى النسيان سيضرب أطنابه على سيناء والجولان والأراضي الفلسطينية وسيكون من الصعب استعادتها ، من هنا فإن السادات استغل الفرصة وأمسك بخيط السلام قبل أن يفلت.
وبسؤاله عن ما تحقق مصريا وعربيا بعد هذه السنوات وما إذا كان الخيط الذي يتحدث عنه قد التف على يد النظام المصري فقيده ومنعه من حرية الحركة والتأثير في محيطه العربي، رد قائلا إن ذلك غير صحيح لأن مصر دولة إقليمية لها مصالح تسعى لتحقيقها ، وإسرائيل تنظر لنفسها من ذات الزاوية ، فحتى لو وقع الطرفان معاهدة سلام فإن ذلك لا يعني انتهاء المنافسة والصراع.
ويختتم عبد الواحد حديثه بالقول إن الدليل على بقاء الصراع المصري الإسرائيلي هو رفض رجل الشارع التطبيع ، وعزلة السفير الإسرائيلي في القاهرة ، وشبكات التجسس الإسرائيلية التي تكتشف كل مدة ، فضلا عن استمرارية "صلاة مصرايم" التي يقوم بها بعض الإسرائيليين الذين خصصوها كل سبت لصب اللعنات على مصر داعين الله عليها بالدمار والخراب.