طرحت الحفريات “الإسرائيلية” تحت المسجد الأقصى وحوله وفتح عدّة أنفاق بحجة البحث عن “آثار يهودية قديمة”، موضوع مصادرة الأراضي وهدم المنازل وإقامة المستوطنات، على نحو شديد الحدّة، لاسيما وقد تفاقم في السنوات الأخيرة. ولعل المسألة الأولى في هذا الموضوع هي التعارض مع القوانين الدولية، وما يسمى “الشرعية الدولية” التي قد تخالف في بعض الأحيان قواعد القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، الأمر الذي عالجناه في بحث مستقل في هذه الصحيفة بعنوان “هل تخالف الشرعية الدولية، القانون الدولي؟”.
ولعل الموقف الدولي لا يزال قاصراً بشأن الانتهاكات “الإسرائيلية”، بخصوص الممتلكات الثقافية والأثرية، التي تناولتها اتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقاها لعام 1977 أو اتفاقية لاهاي لعام 1954 فضلاً عن الأعراف والقواعد القانونية الدولية الإنسانية. وقد كان هذا الموضوع مدار بحث مستفيض في ندوة لمركز الزيتونة في بيروت،
ناقشت جوانب مختلفة من علاقة “إسرائيل” بالقانون الدولي.لقد أقدمت “إسرائيل” على قرار خطير بالضد من القانون الدولي و”الشرعية الدولية” يوم أعلنت ضم القدس بقرار من البرلمان “الإسرائيلي” “الكنيست” في 30 يوليو/ تموز العام 1980 بعد احتلالها إثر عدوان 5 يونيو/ حزيران العام ،1967 ولعل قانون الضم، أي المصادرة الذي أعلنه الكنيست هو “قانون أساس”، أي بمثابة “قانون دستوري”، طالما أن “إسرائيل” تفتقر إلى دستور دائم أو مؤقت منذ قيامها في 15 مايو/ أيار العام ،1948 إثر صدور قرار التقسيم رقم 181 من الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام ،1947 وما زالت “إسرائيل” تستعيض عن سن دستور دائم بعدد من القوانين الأساسية للزوغان من استحقاق إبرام دستور وفقاً لمتطلبات الدولة العصرية.
ويعود السبب الأول في امتناع “إسرائيل” عن سنّ دستور، في أنها لا تريد الاعتراف بمبدأ المساواة بين “المواطنين” تنكّراً وانكاراً لحقوق عرب فلسطين، لاسيما وهي تضم إليها أراضي فلسطينية وعربية خلافاً لقواعد القانون الدولي والشرعية الدولية، كما أنها تتجاوز على حقوق الأقلية العربية، من أصحاب البلاد الأصليين، الذين يصل عددهم اليوم إلى نحو 20% من سكان “إسرائيل”، رغم تبجّحها بأنها الدولة “الديمقراطية” الوحيدة في المنطقة، في حين أن الأساس في أي نظام ديمقراطي يقوم على المساواة التامة والمواطنة الكاملة واحترام حقوق الإنسان.
والسبب الثاني أنها لا تريد تحديد حدود دولة “إسرائيل” التي تمددت لتشمل كل مساحة فلسطين التاريخية وجزءاً من الأراضي العربية (لاسيما بعد العام 1967).
أما السبب الثالث فيعود إلى إعطاء الكنيست صلاحيات السلطة الدستورية العليا، لأنه المخوّل بالتشريع وتستطيع الحكومات المتعاقبة ذات الأغلبية، لاسيما بالائتلافات، التلاعب به وإصدار قوانين وتغييرها بما يعزّز منهج “إسرائيل” العنصري العدواني التوسعي، وبالإساس استمرار مصادرة حقوق الشعب العربي الفلسطيني، وفي المقدمة منها حقه في تقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس طبقاً لما سمي معيار “الشرعية الدولية”.
وكانت اتفاقيات أوسلو لعام 1993 قد وصلت إلى طريق مسدود، فضلاً عن عدم تلبيتها متطلبات حقوق شعب فلسطين بما فيها الحد الأدنى، تلك التي تصرّ “إسرائيل” على رفضها والتنكّر لها، مستخفة على نحو صارخ بإرادة المجتمع الدولي، ومتجاوزة على قواعد القانون الدولي الإنساني.
وقد استخدمت “إسرائيل” الأوامر العسكرية والقرارات الإدارية وهي أوامر وقرارات لا تخضع للمراجعة الشاملة من قبل المحاكم لمعاقبة جماعية لسكان فلسطين الأصليين من العرب، من دون محاكمة أو اتهام، وتشمل العقوبات الإدارية: الاعتقال الإداري والإبعاد وهدم المنازل ومصادرتها وختمها بالشمع الأحمر، وشمل الأمر المحلات التجارية أيضاً، لاسيما لسكان القدس، يضاف إليها سحب الهويات وعدم منح تراخيص البناء وإغلاق المرافق الصحية مثل المستشفيات وإغلاق المرافق التعليمية وتقييد حرية التنقل والتضييق على النقابات والمنظمات المدنية. ولعل مسألة “بيت المشرق” لا تزال حيّة حين تمت مداهمته وسرقة محتوياته من جانب سلطات الاحتلال، والتضييق على حركة المرحوم فيصل الحسيني في القدس.
أما بخصوص مصادرة البيوت والأراضي العائدة للاجئين الفلسطينيين في القدس، فقد بادرت وتحت عنوان “تنظيم أملاك الغائبين” إلى إصدار تشريع بهذا الاسم العام 1948 وكذلك بموجب “قانون ملكية الغائبين” “الإسرائيلي” لعام ،1950 وكان هدف هذا القانون إطلاق يد ما يسمى بحارس أملاك الغائبين ببيع الأملاك، وطبقاً للأرقام “الإسرائيلية” فقد تم بيع نحو 18 ألف دونم ما بين العام 1967 والعام 1974 وحتى العام ،1978 ثم استملاك سدس القدس الشرقية وتم استملاك 600 منزل في العام 1979 وإخلاء 6500 منزل فلسطيني، ثم تعددت الأساليب للاستيلاء والمصادرة للبيوت والأراضي طبقاً لما يلي: 1 الأراضي المصادرة لأغراض عسكرية (وهو يتعلق بإصدار أوامر عسكرية، وذلك يعني أن الأرض مطلوبة لأغراض عسكرية حيوية وفورية)، 2 الأراضي المغلقة لأغراض عسكرية (لمنع الدخول إليها حتى من قبل الصحافيين)، 3 الأراضي المستملكة للمقاصد العامة (المصلحة العامة) وذلك استناداً إلى قانون عثماني قديم بحيث تتم مصادرة الأراضي الفلسطينية.
وتتعكز “إسرائيل” على “قوانين الملكية” المذكورة بحيث يكون بمستطاعها نهب الممتلكات ومصادرة الملكيات الخاصة، بالضد من قواعد القانون الدولي الإنساني والمعاهدات والاتفاقيات الدولية، وبخاصة اتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقاها لعام ،1977 وإذا ما عدنا إلى اتفاقيات لاهاي لعام 1899 و،1907 فإنها وضعت قواعد لا يجوز انتهاكها لمنع مصادرة الأراضي أو إجلاء سكانها الأصليين لإحلال آخرين محلهم.
وقد وضع رئيس الوزراء “الإسرائيلي” الأسبق مناحيم بيغن موضوع مصادرة الأراضي موضع التطبيق، لاسيما بخصوص القدس وممتلكاتها، وذلك بالترافق مع صدور قرار من الكنيست بخصوص “ القدس الكاملة والموحدة عاصمة دولة “إسرائيل””، الذي أعطى الحق للسلطات “الإسرائيلية” بالتوسع في حدود بلدية القدس وضم الأراضي، وهو ما أدانته الامم المتحدة وبخاصة قرار مجلس الأمن الدولي رقم 478 لعام ،1980 حيث اعتبر قرار الكنيست باطلاً، مستنكراً سنّ قانون ضم القدس، ورغم أن واشنطن هي الوحيدة التي لم تصوّت لصالح القرار، لكنها لم تستخدم حتى الفيتو ضد صدوره في ظل شبه اجماع دولي.
وقد سبق لمجلس الأمن أن دان الاستيطان ونقل السكان “الإسرائيليين” إلى الأراضي الفلسطينية واعتبره غير شرعي، مؤكداً عدم الاعتراف بضم القدس ومطالباً بتفكيك المستوطنات.
إن هدم آلاف المنازل هو وسيلة انتقامية بإنزال عقوبات جماعية حتى وإن ادّعت “إسرائيل” أنها عقوبات “انتقائية”. وكان أول من استخدم هذه العقوبة على نطاق واسع موشيه دايان حين اعتبر هدم البيوت وسيلة فعّالة لردع المقاومة، سواء قبل أو بعد العمليات العسكرية ويتم الانتقام (لمجرد الشك) من أية جهة يشتبه في أنها تدعم المقاومة، ولعل ذلك يعني الترخيص بشن حروب “استباقية” أو “وقائية”، الأمر الذي يتنافى مع مبادئ القانون الدولي واتفاقيات جنيف إزاء المناطق المحتلة.
وكانت الذرائع الأمنية هي التي تستند إليها “إسرائيل”، لاسيما بوجود أنظمة وقوانين الطوارئ البريطانية لعام ،1945 وانتشر استخدام هذا الأسلوب ما بعد العام ،1967 وبخاصة خلال الانتفاضتين الأولى والثانية 1987 و،2000 وما زالت “إسرائيل” تمارسه على نحو نشيط من دون مراعاة لأية اعتبارات قانونية دولية، رغم إدانة الكثير من المنظمات الدولية الحقوقية.
وتستند “إسرائيل” إلى تبرير إجراءاتها بزعم استمرار سريان نظام الطوارئ البريطاني، وأنها في خطر داهم ودائم، وأن عقوبات هدم المنازل هي عقوبة مالية لأنها تمسّ ممتلكات الأشخاص وليس حياتهم، وهنا ينبغي ملاحظة الديماغوجيا الصهيونية، التي تريد إعطاء “مسحة إنسانية” على هدم منازل الفلسطينيين وتجريف أراضيهم، ويذهب أحد المنظرين القانونيين “الإسرائيليين” آلن دارشوفيتس إلى أن هدم المنازل أفضل من الاعتقال ويقول أمنو روبنشتاين: المهم الحفاظ على “الحياة الإنسانية” وليس الملكية الفردية، وهو ما ذهب إليه القضاء “الإسرائيلي” أيضاً، في حين أن القانون الدولي يذهب عكس ذلك تماماً حين يخضع الأمر لقوانين الاحتلال، وعلى الدولة المحتلة الانصياع للقوانين الدولية المعمول بها في المناطق الواقعة تحت الاحتلال، وبخاصة اتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقاها.
ولعل هذا يؤكد الطبيعة العنصرية للصهيونية التي دمغها القرار 3379 بأنها “شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري”، ورغم أنه تم إلغاء هذا القرار التاريخي الذي صدر في 10 نوفمبر/ تشرين الثاني 1975 في شهر ديسمبر/ كانون الأول ،1991 إلا أن جميع الإجراءات “الإسرائيلية” تؤيد ما سبق أن أكده القرار 3379 الذي جاء إلغاؤه سابقة قانونية خطيرة، فلم يسبق للأمم المتحدة أن اتخذت قراراً ثم قامت بإلغائه. وهو ما توقف عنده مؤتمر ديربن ضد العنصرية في العام ،2001 الذي اعتبر الممارسات “الإسرائيلية” عنصرية وتشكل انتهاكاً سافراً لحقوق الإنسان، في حين أن “إسرائيل” لا تستطيع أن تُقنع حتى حلفائها بأن هدم المنازل وتجريف الأراضي هو “إجراء إنساني”، الأمر الذي لم ترتضه إدارة أوباما التي حاولت الضغط على حكومة نتنياهو بشأن وقف المستوطنات والامتناع عن مصادرة وتجريف الأراضي.
منقول