أديب الظــــل
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


منوعات دردشات تحميل كلبيات وافلام متنوعه رياضه عربيه عالميه و سيارات
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 ماذا يريد الكاتب

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
sayedmadkoor
مالك ومؤسس منتديات اديب الظل
مالك ومؤسس منتديات  اديب الظل
sayedmadkoor


ذكر
عدد الرسائل : 2414
العمر : 53
العمل/الترفيه : الادب والشعر والخواطر
المزاج : ادب وشعر وثقافه
الدولـــة : 0
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 06/02/2008

ماذا يريد الكاتب Empty
مُساهمةموضوع: ماذا يريد الكاتب   ماذا يريد الكاتب I_icon_minitimeالخميس 26 نوفمبر - 11:12:30

ماذا يريد الكاتب ؟ (1- 4)


.....................

" الفن .. مقلق أبداً ، ثورى دوماً "
هربرت ريد
" الأدب عالم مغاير "
الفيلسوف بومجارتن
" لا توجد وظيفة أكثر نبلاً من وظيفة الكاتب . إنه الكائن الذى يقود ، يعمل بريشته ، وريشته تصنع الفرق بينه وبين من يمسك بالمجداف "
مقولة فرعونية
" إن الكلمات هى غدارات محشوة "
الكاتب الفرنسى بريسباران
" لست إلا أديباً ، ولا أستطيع ، ولا أريد أن أكون شيئاً آخر "
فرانز كافكا

لماذا أكتب ؟
لم أعن بتوجيه السؤال إلى نفسى أو مناقشته . نشأت فى بيئة تدفع إلى القراءة والكتابة ، مكتبة زاخرة بمئات الكتب ، وأب جعل القراءة حرفته وهوايته ، ومناقشات لا تنتهى فى السياسة والاقتصاد والثقافة بين أبى وأصدقائه . أشارك فيها ـ أحياناً ـ بما يدفع الأصدقاء إلى هز رءوسهم بالإعجاب ، أو بما يدفع أبى إلى إسكاتى ، لسذاجة آرائى .
نشأت وأنا أقرأ وأكتب ، فغاب السؤال ، لأن الفعل سبق تقصى البواعث . وحين واجهنى السؤال ، بدأت التفكير فى إجابة لم أكن فكرت فيها من قبل ، ولا تدبرتها ، لأنى حين بدأت القراءة الأدبية ، فالكتابة ، لم أكن طرحت على نفسى أسئلة من أى نوع .
والحق أنى لا أذكر متى حاولت الكتابة للمرة الأولى . كانت أيام طه حسين هى أول ما قرأت من أعمال أدبية . أذكر اليوم والظروف وتأثيرات القراءة . أما بدايتى الأدبية ، أول ما كتبت ، فإنى لا أذكر متى ولا كيف ، وهل عرضت محاولتى على آخرين ، أو أنى لجأت ـ عقب الكتابة ـ إلى تمزيقها .
***
كانت القصيدة الشعرية هى أول ما كتبت . لم أكن تعلمت الأوزان ، فلجأت إلى المحاكاة . قصيدة الرثاء التى كتبها شوقى ـ مثلاً ـ تتحول إلى قصيدة مناجاة للحبيبة ، القصيدة البرمكية الشهيرة : قل للخليفة ذى الصنيعة والعطايا الفاشية .. وابن الخلائف من قريش والملوك العالية .. إن البرامكة الذين رموا إليك بداهية .. صفر الوجوه عليهموا حلل المذلة بادية .. إلخ ، كتبت على منوالها : قل للحبيبة ، وكلمات أخرى باعثها التقليد ، فبديهى أن ابن الثامنة ، أو التاسعة ، لن يكون قد تعرف إلى حب الجنس الآخر بالمعنى الفرويدى ، أو حتى الأفلاطونى .
ثم كتبت العديد من القصص وأنا فى المرحلة الأولية ، وهو ما أتصور أن الكثير من الأطفال ـ فى المرحلة السنية نفسها ـ يفعلونه ، لا شبهة نبوغ ، أو تفرد ، القضية هى فيما يلى هلاميات البداية .
كنت أكتب قصصاً مما يبعث به الصغار إلى مجلات الأطفال ، فتنشرها بعد أن تهذبها ، أو تعيد كتابتها ، وقرأت محاولاتى لتلاميذ ـ وأحياناً : أساتذة ـ مدرسة البوصيرى الأولية . وعجل زميلى فى الدرج المجاور باحترافى ، حين أصر أن أكتب له قصة ، فلا يقرأها سواه ، ودفع المقابل مليمين ، كنت أسعد الناس بهما ، لا للقيمة المادية ، بل لأنى تقاضيت أجراً عما كتبته !
***
كانت الملاك روايتى الأولى ، المطبوعة . توليفة مقلدة للمنفلوطى وطه حسين والمازنى والسباعى وعبد الحليم عبد الله وغيرهم ، تلتها رواية ظلال الغروب . توهمت ـ دون وعى حقيقى ـ أن الجنس مهم فى العمل الفنى، فحشوتها بمواقف جنسية زاعقة ، وغير مبررة ، فى حين كان قوام الرواية قصة حب ساذجة بين شاب وفتاة ، انتهت بموت الفتاة إثر مرض لم يمهلها . قصة أتيح لى معايشتها ، وكانت الفتاة الراحلة هى طرف العلاقة الآخر . ثم كتبت رواية باسم أين الطريق ؟ ، لا أذكر شيئاً من أحداثها ولا شخصياتها ، وإن كنت أذكر ـ بحب ـ محاولة صديقى المهندس صلاح شاهين ـ أحد قيادات الإخوان المسلمين بالإسكندرية ـ طباعتها على نفقته .
إرهاصات ، أحتفظ بها فى مكتبى ، من قبيل الذكرى ، ولتلمس خطوات البداية . أما القصة التى أعتبرها بدايتى الحقيقية ، فهى " يا سلام " ، كتبتها فى 1956 ، ونشرتها ضمن مجموعتى " تلك اللحظة " .
حاولت ـ بالطبع ـ أن أنشر محاولاتى الباكرة فى صحف الإسكندرية . قدمت الفصلين الأولين من روايتى " أين الطريق " إلى رئيس تحرير جريدة " العهد الجديد " ، وكانت تصدر كلما توافر لها من الإعلان ما يحقق الربح سلفاً ، ونشر الفصل الأول من الرواية فى الجريدة ، لكن رئيس التحرير دفع بالفصل الثانى إلى جريدة أخرى اسمها " الاتحاد المصرى " ، فنشرته . وعرفت أن الجريدتين تتبادلان النشر بما يسوّد بياض الصفحات ، ولأن القارئ الذى يتابع كان غائباً ، فقد كانت تكملة نشر مواد إحدى الجريدتين فى الأخرى مسألة واردة ، المهم أن تصدر الجريدة فور أن تتوافر لها الإعلانات التى تحقق لها الربح المسبق .
بالمناسبة : لقد ضاعت مسودات تلك الرواية الباكرة . ومع أن صديقى صلاح شاهين قد تكفل بطباعة الجزء الأكبر من الرواية على نفقته ، ولم يطبع الجزء الباقى لتكاسل منى ، لا لتقصير منه .. مع ذلك ، فإن كل ما يتعلق بتلك الرواية الباكرة يبدو فى ذاكرتى الآن كالأصداء البعيدة ، الاسم وحده هو ما أذكره الآن منها !
***
الفن ـ الرواية والقصة على وجه التحديد ـ عالمى الذى أوثره بكل المودة ، أتمنى أن أخلص لهما ـ تجربة وقراءة ومحاولات للإبداع ـ دون أن تشغلنى اهتمامات مغايرة ، لكن الإبداع الروائى والقصصى فى بلادنا لا يؤكل عيشاً . ربما أتاحت رواية وحيدة فى الغرب لكاتبها أن يقضى بقية حياته بلا عوز مادى ، فيسافر ، ويتأمل ، ويقرأ ، ويخلو إلى قلمه وأوراقه ، دون خشية من الفقر ، وما يضمره من احتياجات .. لكن المقابل المحدد ، والمحدود ، الذى يتقاضاه المبدع فى بلادنا ثمناً لعمله ، يجعل التفرغ فنياً أمنية مستحيلة .
لقد اعترف الروائى الإنجليزى فرانسيس كنج ـ فى بساطة وصراحة ـ أن السبب الحقيقى فى اتجاهه للنقد ، هو أنه من الصعب ـ فى بريطانيا ـ أن يحيا المرء على كتابة الروايات فحسب ، ومن ثم فقد اتجه ـ وعدد آخر من الروائيين البريطانيين ـ إلى كتابة النقد والدراسات الأدبية . فإذا كان ذلك هو ما يقدم عليه الروائيون فى الغرب ـ لظروف اقتصادية كما ترى ـ فماذا تتوقع من الروائيين العرب الذين يتقاضون ـ مقابلاً لأعمالهم ـ بما لا يكاد يصل إلى قيمة نقلها على الآلة الكاتبة ؟! [ هذه الكلمات ، قبل أن يستبدل الحاسوب بالآلة الكاتبة ، بالإضافة إلى تفشى جريمة الحصول من الأدباء على تكاليف النشر بدلاً من مكافأتهم ، ولو ببضع نسخ ! ]
من هنا ، كان اختيارى ـ أو لجوئى ـ للصحافة ، فهى الأقرب إلى قدرات الأديب واهتماماته ، وهمومه أيضاً . وكنت أتذكر المازنى وهو يجد فى كل ما يصادفه مادة صحفية ، بينما الفن وحده شاغله وهواه ، وكتبت فيما أعرفه ، واستعنت ـ بالقراءة ومحاولة الفهم والاقتراب المباشر ـ فيما لم أكن أعرفه . ووجدت فى حياتى الصحفية ـ أحياناً ـ ما يغرى بكتابة عمل أدبى : رواية النظر إلى أسفل مثلاً ، ورواية الأسوار ، ورواية الخليج " ، ورواية صيد العصارى " ، ورواية كوب شاى بالحليب وغيرها ، لكن الأدب ظل ـ بالرغم منى ـ تزجية فراغ . أحاول الكتابة إن وجدت فى أسوار الصحافة منفذاً . لذلك كان ترحيبى ـ متحسراً ـ بالسفر إلى سلطنة عمان ، للإشراف على إصدار جريدة " الوطن " . وكنت أمنى النفس بأن أدخر فى الغربة ما يعيننى على الإخلاص للفن وحده ، لكن الأمنية ظلت فى إطارها لا تجاوزه . وكان لابد أن أكتب فى موضوعات تقترب من الفن ، أو تبعد عنه . وحتى لا أفقد ذاتى فى سراديب مجهولة النهاية ، فقد فضلت أن تكون محاولاتى أقرب إلى ما يشغلنى بالفعل ، فى الفن ، وفى الحياة عموماً . وبصوت هامس ـ ما أمكن ـ فإن " مصر " ، الموطن واللحظة والماضى والمستقبل ، هى الشخصية الأهم فى كل إبداعاتى . ذلك ما أحرص عليه ، وما لاحظه حتى القارئ العادى . تعمدت أن تكون مصر : تاريخها وطبيعتها وناسها ومعاناتها وطموحها ، نبض كتاباتى جميعاً ، ما اتصل منها بالصحافة وما لم يتصل ، ما اقترب من الأدب وما لم يقترب ، وكانت حصيلة ذلك ـ كما تعرف ـ عشرات المقالات التى تتناول شؤوناً وشجوناً مصرية ، بدءاً بكتابى " مصر فى قصص كتابها المعاصرين " إلى كتاب " مصر المكان " ، وربما إلى كتب أخرى تالية .
لم تكن الصحافة إذن مدخلى إلى الأدب ، لكن الأدب كان مدخلى إلى الصحافة . أحببت الأدب ـ كما قلت لك ـ فى سن باكرة ، لا أستطيع تحديدها تماماً . ولما حاولت اختيار وظيفة أحيا من راتبها ، كانت الصحافة هى المهنة الأقرب إلى اهتماماتى الأدبية . أذكر قول أرسكين كالدويل : " لم يكن لدى طموح فى أن أجعل الصحافة مهنتى فى الحياة ، لكن عمل الصحافة هو الكتابة ، وكانت الكتابة هى الشيء الذى كنت أريد أن أتعلمه " ( ت سيد جاد ) . أقدمت على العمل فى الصحافة وفى خاطرى قول همنجواى " إن العمل الصحفى لن يؤذى الكاتب الناشئ إذا استطاع أن يتخلص منه فى الوقت المناسب . وكنت أدرك ـ كما أدرك تولستوى دوماً ـ أن أية مهنة لا يمكن أن تنتزعنى من الأدب . عاهدت نفسى ـ مثلما فعل كالدويل من قبل ـ على أن أى عمل أشتغل به غير الكتابة ، سوف يكون مؤقتاً ، لا لشيء إلا من أجل الاستمرار فى العيش ، والاحتفاظ بسقف فوق رأسى ، وبكساء فوق جسدى .
قد تقتل الصحافة موهبة الأديب إن نسى نفسه ، وارتمى فى أمواجها . اخترت الصحافة لأنها أقرب المهن إلى طبيعة الأديب ، وإلى اهتماماته ، وحتى لا أصبح مثل جوليان سورل ـ بطل ستندال ـ فأواجه دائماً تلك المشكلة الأليمة التى تتمثل فى الوجبة التالية ، ومن أين آتى بها . إذا كنت قد حاولت الإجادة ، فلأنى أحاول الإجادة فى أى عمل أوافق على أدائه ، حتى لو لم أكن أحبه . مع ذلك ، فإنى أحاول أن أجعل معظم وقتى للأدب ، وأقله للصحافة . علمتنى ذلك تجربة السنوات التسع التى قضيتها مسئولاً عن تحرير " الوطن " . وحتى الآن ، فإن حلم كافكا يراودنى فى أن أستطيع الحصول من عمل أكتبه على ما يسد احتياجاتى ، لكى أفرغ لكتابة عمل آخر . حينذاك تكون كل آمالى فى الحياة قد تحققت .
(يتبع)
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://adyeb.yoo7.com
sayedmadkoor
مالك ومؤسس منتديات اديب الظل
مالك ومؤسس منتديات  اديب الظل
sayedmadkoor


ذكر
عدد الرسائل : 2414
العمر : 53
العمل/الترفيه : الادب والشعر والخواطر
المزاج : ادب وشعر وثقافه
الدولـــة : 0
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 06/02/2008

ماذا يريد الكاتب Empty
مُساهمةموضوع: رد: ماذا يريد الكاتب   ماذا يريد الكاتب I_icon_minitimeالخميس 26 نوفمبر - 11:13:22

ماذا يريد الكاتب ؟ (2 - 4)

.....................

أستعيد ـ فى لحظات انشغالى ـ قول همنجواى " كلما ازداد الكاتب انغماساً فى عمله ، بعد عن أصدقائه ، وأصبح وحيداً " . ومع أن جابرييل جارثيا ماركيث يؤكد أن لحظات السعادة المطلقة ، والوحيدة ، لم يعشها إلا أثناء الكتابة ، فإن الكتابة ـ فى تقديره ـ أكثر المهن عزلة فى العالم " فلا أحد بإمكانه مساعدة المرء فى كتابة ما يكتب " .
من ناحيتى ، فأنا لا أعتزل الناس حتى فى لحظات الكتابة . إنهم شاغل ما أكتبه ، وسدى كلماته . وإذا كان بوريس بورسوف يؤكد أن أى فنان حقيقى ينطلق فى أعماله من تجربته الروحية الذاتية ، فالواقع أنى لا أكتب لنفسى ، لا أكتب لأودع ما أكتبه أحد الأدراج ، أو أمزقه بعد أن أنتهى منه ، وإنما أدفع به إلى الناشر ، سواء فى صحيفة أو كتاب . يشغلنى أن يرى النور ، أن يقرأه الناس ، ويفيدون ، أو يستمتعون به ، أو يناقشونه ، أو حتى لا يجدون فيه ما يستحق القراءة . نصحت بيرل باك كتاب الرواية ، أو من يريدون كتابة الرواية ، بألا يصبحوا ذلك إذا استطاعوا تجنبه . إن تأليف الروايات يستنفد حياة الروائى كلها ووجوده " وإذا لم يضح بحياته ووجوده وهو جذلان ، فعليه ألا يقدم على التضحية إطلاقاً " .. " لا توطن نفسك أبداً على أنك ستجنى مالاً من تأليفك رواية ، إنها أكبر مغامرة فى العالم ، إذا كنت عجوزاً أو قلقاً ، بل وإذا كنت قلقاً فقط ، أكتب الرواية إذا أحسست بأنه لابد أن تكتب رواية ، لكن اعتبر الأجر مصادفة سعيدة قد لا تحدث . احصل على جزائك من مجرد كتابتك لهذه الرواية ، وحاول أن تقنع بهذا " ( ملحق " المساء " الثقافى 30/12/1964 )
***
الكاتب لا يخترع شخصياته . من الصعب أن تكون الشخصيات منبتة عن الواقع تماماً . بل إن كاتب نفسه ربما تصور أنه اخترع الشخصية ، والحقيقة ليست كذلك . إنه لو حلل الشخصية إلى عناصرها الأولى ، فلابد أن يجد فيها ملامح وقسمات من شخصيات عرفها بصورة مقيمة ، أو طارئة ، وربما قرأ عنها ، أو سمع بها ، دون أن يتاح له التعرف إليها مباشرة . وكما يقول ألبير كامى ، فلا يمكن أن تكون إحدى شخصيات العمل الفنى هى الفنان نفسه ، وإن ظل هناك احتمال بأن يكون الفنان فى آن واحد ، جميع الشخصيات التى خلقها . إن العمل الأدبى ـ على نحو ما ـ يحمل طابع السيرة الذاتية ، وعلى حد تعبير الناقد الروسى بوريس بورسوف ، فإن " الذى يكتب بشكل حقيقى ، هو من يفكر بنفسه ، وبكل شيء آخر فى آن معاً " .
" أنا مدام بوفارى " ، عبارة لفلوبير . وفيما عدا استثناءات قليلة ، فإن رواياتى وقصصى ـ بدرجة أو أخرى ـ حياتى . لست أزعم ـ كما قال ألان روب جرييه عن نفسه ـ إن مذكراتى الحقيقية موجودة فى رواياتى ، لكن معظم أعمالى ـ إن لم يكن جميعها ـ تنطلق من تجربتى الشخصية ، وإن صعب القول إنه يمكن اعتبارها سيرة ذاتية حقاً . ولعلى أوافق نجيب محفوظ على أن تجربة الفنان ليس من الضرورى أن تحدث له شخصياً ، لكنها قد تحدث لآخرين ممن أتيح له أن يعايشهم عن قرب [ ونتذكر كامل رؤبة لاظ بطل روايته السراب ] . معظم ما كتبته ، وأكتبه ، يتناول أحداثاً عشتها ، أو تعرفت إليها ، بصورة صحيحة . وعلى حد تعبير همنجواى فأنا لا أعرف إلا ما رأيته . أوافق يحيى حقى فى أن التصوير الفنى لوردة فى حديقة ، يختلف عنه لوردة فى صورة كتاب ، تلمس خشونة الأوراق والساق وقطر الندى يختلف عن التعرف إليها فى الصورة المسطحة . حتى أعمالى التى حاولت توظيف التراث ، أفدت فيها من ملامح وتصرفات شخصيات تعرفت إليها ، وعايشتها . وكما وصف كونراد بطل روايته " لورد جيم " بأنه " واحد منا " ، فلعلى أزعم أن الوصف نفسه ينطبق على معظم الشخصيات التى تناولتها فى أعمالى . ولا يخلو من دلالة أن العديد من أبطال رواياتى كانت القراءة شاغلاً أساسياً لهم : منصور سطوحى فى الصهبة ، حاتم رضوان فى الشاطئ الآخر ، عادل مهدى فى " المينا الشرقية ، المؤرخ فى قلعة الجبل ، شاكر المغربى فى النظر إلى أسفل ، محمد إبراهيم مصطفى العطار فى قاضى البهار ينزل البحر ، رفعت القبانى فى حكايات الفصول الأربعة ، وغيرهم .
وإذا كان فوكنر قد اخترع مدينة هى " جيفرسون " تدور فيها أحداث رواياته ، فى حين اخترع ماركيث مدينة هى " ماكوندو " تعبيراً عن خصوصية البيئة فى أمريكا اللاتينية ، فإنى حرصت على الكتابة عن " بحرى " باعتباره كذلك . لم أحذف ، ولم أضف ، إلا بقدر الاختلاف بين الواقع والفن ، وكما أشرت قبلاً ، فإن الفن ليس نقلاً فوتوغرافياً للواقع ، لكنه إيهام بذلك الواقع . بحرى ليس ماكوندو ماركيث ، ليس فردوساً أرضياً وفرصة رائعة أمام الإنسان ، ليحقق ما عجز عن تحقيقه من أمنيات . أهل بحرى يعانون ويقاسون ويعملون ويمرضون ويفرحون ويموتون ويألمون ويأملون ، لا أضيف جديداً لو قلت إن المحلية هى البيئة الحقيقية التى يجدر بأعمالنا الفنية أن تتحرك فى إطارها ، توصلاً للإنسانية . وإذا كانت المحلية ـ فى اتفاق الجميع ـ شرطاً أساسياً لتحقيق العالمية ، فإن المحلية ليست فى تلك الحكايات الساذجة ، أو الهلاميات ، أو الصور التى تفتقد الترابط ، بحيث يصعب نسبتها إلى العمل الفنى فى إطلاقه . وعندما ترجمت ـ بمبادرات طيبة من لجاننا المختلفة ـ نماذج من تلك الأعمال التى يمكن القول ـ بكثير من التجاوز ـ إنها جيدة فنياً ، فإن القارئ الأجنبى وضعها فى الإطار الذى ينبغى ألا تتجاوزه . المحلية العالمية هدف من الصعب بلوغه . ترجمنا العديد من أعمال كبار أدبائنا إلى لغات أجنبية ، فلم تجاوز اهتمامات المستشرقين والمعنيين بالثقافة العربية . صارحنى أستاذنا حسين فوزى ـ وقد طالت إقامته فى أوروبا ـ عن " نهر الجنون " لأستاذنا الحكيم ، بأن ترجمتها إلى الفرنسية حققت أثراً سلبياً ، لأن قيمتها الفنية تهبط عما يمكن لطالب فرنسى فى المرحلة الثانوية إبداعه . لم يجد حسين فوزى فى تلك الملاحظة انتقاصاً لأعمال الحكيم ، فالإعجاب بيوميات نائب فى الأرياف وعودة الروح ـ على سبيل المثال ـ يبين عن نفسه ـ فى المقابل ـ فى آراء النقاد الأجانب ، وإن تحفظت تلك الآراء فى نسبتها كذلك إلى الإبداع العالمى ، بكل ما تنطوى عليه الصفة من مواصفات محددة ، وصارمة . مع ذلك ، فإن الإبداعات العربية الحديثة قد أفرزت ـ فى فهمها الواعى لمعنى المحلية ـ معطيات يصح انتسابها ـ بدرجات متفاوتة إلى الأدب العالمى فى إطلاقه . العمل الفنى الحقيقى هو الذى يلتحم ببيئته بصدق ، ويعبر عن تلك البيئة بالصدق نفسه ، شريطة أن يعى الفنان مقومات الإبداع الفنى بعامة ، وأن تكون الهموم التى يتناولها ـ رغم محليتها ـ هى هموم الإنسان فى كل مكان . المثل الذى يحضرنى قصة تشيخوف الرائعة " لمن أسرد أحزانى " . لا يجد الحوذى من يسرد له أحزانه ، فيتجه بالحديث إلى حصانه ، يبثه ما يعانيه ، شخصية روسية تنتمى إلى أواخر القرن الماضى ، لكنه ـ فى الوقت نفسه ـ شخصية إنسانية ، بكل ما تنطوى عليه هذه الصفة من دلالات .
***
الملاحظة التى ربما أبداها البعض ، واكتفى البعض الآخر بإيرادها تساؤلاً فى عينيه ، هى أن حياتى خاصة ، فلا أغادر بيتى إلا نادراً ، ولا ألتقى الآخرين إلا لضرورة ، ولا أتردد على الندوات أو المقاهى أو أماكن التجمعات بعامة ، بما يعجل بنفاد مخزون " التجارب " التى تصلح نبضاً لأعمالى . والملاحظة ـ فى ظاهرها صحيحة ـ بل إنى أقدرها تماماً ، وإن كنت أجد فيما قدمت من أعمال جواباً مقنعاً . وبصراحة ، فليس ثمة فجوات فى حصيلتى المعرفية والاجتماعية والنفسية . ولعلى أحرص ـ فى كل لحظة ـ على أن أحتفظ بقدرتى على الدهشة . إذا زايلتنى هذه القدرة ، فإن الخطوة التالية ـ كما أتصور ـ هى أن أهجر الإبداع مطلقاً . إن عين الفنان تختلف فى نظرتها إلى من حولها ، وما حولها ، عن عين الإنسان العادى . عين الفنان شديدة الحساسية ، بارعة الالتقاط ، دقيقة الملاحظة . قد يغادر الإنسان العادى حياة كاملة لها خصوصيتها وتفردها ، فلا يستقر فى داخله منها شيئ. أما الفنان ، فقد تهبه جلسة عادية مع أناس عاديين ، حياة خصبة ، بما يضيف إليها من تجاربه ورؤاه وخياله . من خصائص العمل الجيد أن صاحبه يلفت نظرى إلى أشياء طالما شاهدتها من قبل ، لكننى لم ألتفت إليها ، بل ولم أفطن إلى وجودها .
مع تأكيدى على أهمية التجربة ، فليس إلى حد تذوق الزرنيخ مثلما فعل فلوبير ، حين أراد التعبير عن انتحار مدام بوفارى ، ليرى مدى تأثير الزرنيخ فى النفس والجسد . الشخصية الروائية لا تبدو غريبة عن الواقع ، أو هذا ما ينبغى أن يكون . الفن ـ كما أشرت ـ إيهام بالواقع ، والفنان لا يأتى بشخصياته من فراغ . إنها محصلة الواقع والخيال فى آن . من هنا ، أتفهم قول برتولت بريخت إن " شخصيات العمل الفنى ليست مجرد أشباه للناس الأحياء ، بل صور حددت ملامحها بما يتناسب والمنهج الفكرى للمؤلف " . على سبيل المثال ، فإن السلطان خليل بن الحاج أحمد وعائشة بنت عبد الرحمن القفاص وخالد عمار والمعلم شيحة ومختار الرمادى وتغريد وخيرات ، هؤلاء وغيرهم ليسوا شخصيات تاريخية حقيقية ، لكنها شخصيات اخترعها خيال الفنان ، وإن أفاد فى ملامحها الظاهرة والنفسية من شخصيات معاصرة تعرف إليها . أكد لى الصديق الراحل فاروق خورشيد أنه قرأ قلعة الجبل باعتبار أن السلطان خليل شخصية حقيقية فى التاريخ المملوكى ، وتوافق اسم سلطان التاريخ مع سلطان الرواية لا يجاوز المصادفة البحتة . أما الصديق الأستاذ الجامعى حسن البندارى فقد عرض مساعيه لبيع ما تصور أنه يوميات المتنبى لجامعات أجنبية . وأما الصديق الشاعر كامل أيوب ، فقد دفع برواية من أوراق أبى الطيب المتنبى إلى سلسلة المكتبة الثقافية ، بتصور أنها تحقيق وتقديم ليوميات المتنبى . فلما صارحته بأن الرواية من تأليفى ، أصر أن أكتب ورقة تتضمن ذلك المعنى .
حين ألح فى وجود المصدر الواقعى للشخصيات التى تضمها أعمالى ، لا أعنى أنى أنقل الشخصية كما هى فى الواقع . ألتقط لها صورة فوتوغرافية ، أو أرسم " بورتريه " يحاول الإجادة فى النقل ما أمكن . المصدر الواحد ، المحدد ، فى الشخصية ، أولى به أن يبعد عن الفن ، إنه يصبح أقرب إلى الكتابة الببليوجرافية ، أو التقارير . ثمة نمط إنسانى معين ، شخصية محددة ، لكن تلك الشخصية تهجّن ، تطعّم بقسمات وملامح من شخصيات أخرى ، تتداخل معها ، فتشكل شخصية أخرى ، هى شخصيات العمل الأدبى ، الشخصية الأصل ، الشخصيات المتداخلة ، موروثات الكاتب وقراءاته وتجاربه . ليست كل الشخصيات مما يصلح لأن يتوقف الكاتب أمامها ، يتأملها ، يعلن بينه وبين نفسه : هذه شخصية روائية . مع ذلك ، فإن الكاتب لا ينقل ملامح الشخصية وقسماتها كما هى فى الواقع . إنه يضيف إليها ، ويحذف منها ، فتنتهى إلى شخصية روائية حقيقية ، فيها من الواقع ، ومن الكاتب نفسه . قد يختار الفنان شخصية من الواقع ، ثم يضفرها بتجاربه ـ وتجارب الآخرين ـ ورؤاه وخبراته وقراءاته وخياله ، فتتشكل من ذلك كله شخصية جديدة ، هى الشخصية الروائية . والذهن ـ وحده ـ ليس مصدر استلهام الشخصية الروائية ، إنها عملية معقدة ، يشارك فيها الذهن والوجدان والعين والأذن ، لتبين الشخصية الروائية عن ملامحها . وبافتراض أن الفنان قد استطاع أن يخترع شخصيته الروائية تماماً ، فلا ظل وجود لها فى الواقع ، فإنها ستأتى ـ بالضرورة ـ شخصية آلية ، بلا حياة . وأغلب الظن أنها لن تكون شخصية مقنعة .
لقد كتب جارثيا ماركيث وقائع موت معلن بعد حادثة قتل شاهدها فى أحد شوارع مدينة أرتاكا " أطلقت الرصاصات على الضحية وهو عائد إلى منزله ، أغلقت أمه الباب ، ذلك شيء يفوق التصور : رجل ثرى له أهميته يضرب من جهتين . طلبت منى أمى ـ فى ذلك الحين ـ ألا أكتب شيئاً ، لأن هذا سوف يقاضى أم الضحية بتهمة إغلاق الباب على نفسها . وعدت أمى ألا أكتب شيئاً طيلة حياة هذه المرأة . وقد سمعت أنها ماتت منذ خمس سنوات ، وبدأت أفكر فى كتابة الرواية " ( الهلال ديسمبر 1982 ) . أما أستاذنا نجيب محفوظ ، فقد كانت روايته الشهيرة اللص والكلاب تأثراً مباشراً بسيرة السفاح محمود أمين سليمان ، الذى أراد أن ينتقم من زوجته الخائنة ، فأصابت رصاصاته أبرياء كثيرين . ويصف لنا يحيى حقى فى كتابه " عطر الأحباب " تلك الأيام التى كانت فكرة " اللص والكلاب " قد شغلت فيها نجيب محفوظ ، سيطرت على أفكاره ومشاعره ، تحاول التخلق كعمل فنى .
***
(يتبع)
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://adyeb.yoo7.com
sayedmadkoor
مالك ومؤسس منتديات اديب الظل
مالك ومؤسس منتديات  اديب الظل
sayedmadkoor


ذكر
عدد الرسائل : 2414
العمر : 53
العمل/الترفيه : الادب والشعر والخواطر
المزاج : ادب وشعر وثقافه
الدولـــة : 0
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 06/02/2008

ماذا يريد الكاتب Empty
مُساهمةموضوع: رد: ماذا يريد الكاتب   ماذا يريد الكاتب I_icon_minitimeالخميس 26 نوفمبر - 11:14:24

يقول أرسكين كالدويل : " إنى أعتقد أن الكتابة الخلاقة تحركها حالة ذهنية معينة ، وأن أولئك فقط الذين ولدوا بهذه الموهبة ، ويسعون بجهد متواصل ليعبروا عن أنفسهم كتابة ، يمكن أن يحققوا النجاح الذى يريدون " ( كيف أصبحت روائيا ـ 266 ) . وفى تقديرى ، أن كاتب الرواية أو القصة القصيرة ينبغى أن يكون دارساً لعلم الاجتماع وعلم النفس والتربية والتاريخ والأنثربولوجيا ، وملماً ـ إن لم يكن منغمساً ـ بالتطورات السياسية فى بلاده ، وفى العالم ، فضلاً عن وجوب أن يكون ذا نفس مناضلة ، تحيا واقع الجماعة ، وتحس به ، وتخلص فى التعبير عنه . وباختصار ، فإن الروائى ، والمبدع بعامة ، ينبغى أن يكون متسلحاً بثقافة موسوعية . نحن إذا هدمنا شيئاً ما ، بناية مثلاً ، فإن الهدم ليس غاية فى ذاته ، إنما الهدف ـ أو هذا هو ما ينبغى ـ أن يكون الهدم للبناء ، للإضافة ، للتطوير . الهدم لمجرد الهدم مرفوض ، والتعرف إلى البدايات والقواعد والركائز والأصول هو ما يجدر بالأديب أن يحصل عليه ، مثلما أنه على الفنان التشكيلى أن يتعرف إلى المذاهب والاتجاهات الفنية المختلفة . الأمر نفسه بالنسبة للمبدع فى كل المجالات ، أن يحيط بالخصائص الفنية ، التقليدية ، للفن الذى اختاره . بوسعه ـ بعد ذلك ـ أن يهدمه ، ليضيف ، ويطور ، بقدر ما تمنحه قدراته الفنية وموهبته . أشير إلى قول هنرى جيمس : لا يمكن لقصة جيدة أن تنبثق عن ذهن سطحى " .
أنا حين أتحدث عن ثقافة الكاتب ، عن خبراته وقراءاته وتجاربه وتأملاته وإفادته من كل الفنون فى إثراء فنه ، وتوضح البعد الثقافى بعامة فيما يكتب .. حين أتحدث عن ذلك ، فإن الأرضية التى يقف عليها ذلك كله هى الموهبة . لا فن بلا موهبة . مهما حصّل الكاتب من ثقافة ، فإنها لا شيء بلا موهبة . حتى الفلسفة بمعناها الأكاديمى المتخصص يجب أن يحصل المبدع على المتاح من التثقف فيها . وفى المقابل ، فلعل أهم ما يجدر بالفنان أن يحرص عليه ، هو أن يحترم ثقافة قارئه ، وأن يحترم ذكاءه أيضاً . وقد طالما حرص الرومانتيكيون على تضمين أعمالهم خطباً وشعارات ، بينما يكتفى الفنان المعاصر ـ أو هذا هو المطلوب ـ بالإضمار التصويرى . يثق فى ذكاء قارئه ، وأن من حق القارئ ـ وواجبه ـ أن يتأمل العمل الفنى ، ويمعن النظر فيه ، بل ويملأ الفجوات التى يتركها الفنان فى ثنايا العمل بما يحمله من ثقافة وذكاء . كانت تلك محاولتى ـ على سبيل المثال ـ عقب إضراب النزلاء فى الأسوار ، ملأت الفجوات بفقرات تروى نتفاً من وقائع التاريخ القديم، والمعاصر، واعتبرتها نسيجاً فى العمل الفنى ، يصل ما بين بدء الإضراب ، والرضوخ لمطالب النزلاء ، وتركت لذكاء القارئ تبين ذلك .
والأمثلة كثيرة .
***
لست أذكر القائل : إن على الكاتب مهمتين : الأولى أن يقول شيئاً ، والثانية أن يروى شيئاً ، لكنه قول صحيح تماماً . ورغم احترامى لقول بيكيت " ليس لدى شيء أقوله ، فأنا الوحيد الذى يستطيع أن يقول إلى أى حد أننى ليس لدى شيء أقوله ، أو مضطر لأن أقوله " فإن المقولة / الدلالة واضحة فى أعمال بيكيت . قد تتعدد التفسيرات ، والتعرف إلى ما يحمله العمل من دلالات مضمونية ، لكنها موجودة [ أذكرك بتفسير نجيب محفوظ لمسرحية بيكيت لعبة النهاية فى كتابى نجيب محفوظ : صداقة جيلين ] . فى رسالة من تولستوى إلى مواطنه الروائى الروسى ليونيد أندرييف ، يشير إلى أنه على الكاتب ألا يكتب " إلا إذا استحوذت عليه الفكرة التى يود التعبير عنها بأحسن ما فى طاقته ، وألا يفكر حينئذ فى شيء آخر غير إجادة التعبير ، فلا ينظر إلى ما تضفى عليه الكتابة من شهرة أو مال " , وكتب تشيخوف فى إحدى رسائله : " دعنى أذكرك بأن الكتاب الخالدين ، أو فى الأقل ذوى الموهبة ، الذين يهزون نفوسنا ، لديهم سمة مشتركة بالغة الأهمية ، هى أنهم يتجهون إلى شيء ، وأنهم يدعونك إليه أيضاً ، وإنك تحس ، لا بعقلك وإنما بكيانك كله . إن لديهم هدفاً ، بعضهم لديه أهداف مباشرة ، كالقضاء على الإقطاع وتحرير البلاد ، وكالسياسة أو الجمال ، أو مجرد الفودكا ، وآخرون لديهم أهداف بعيدة كالله ، وكالحياة بعد الموت ، وكسعادة البشرية ، وهكذا، وإن أفضلهم كتاب واقعيون يصورون الحياة كما هى ، ولكن على الرغم من أن كلاً منهم يستغرقه هدف واحد ، فإنك تحس فى أعمالهم ، لا مجرد الحياة كما هى ، بل تحس الحياة كما ينبغى أن تكون ، وإن هذا ليأسرك " . إن للعمل الأدبى استقلاليته ، لكن وجود العمل مستمد من المبدع الذى كتبه ، من تمايز خبراته وتجاربه وقراءاته وتأملاته ورؤاه . أفترض أن العمل كتب نفسه ، أو هذا ـ فى الأقل ـ ما أتحمس له ، لكننى لا أتصور أن يصدر العمل عن فراغ ، حتى الثمرة المعينة هى ـ فى الأساس ـ بذرة معينة ، وضعت فى تربة معينة ، ومناخ معين .. وإلا ، فما سر زراعة محصول بذاته فى بلد ما ، ولا يمكن زراعته فى بلدان أخرى ؟!. وإذا كان رأى بوشكين أن " الفنان الحقيقى يهب نفسه كلها للفن " ، فإنى أجد أن القضايا التى يناقشها الفن ويطرحها ، وليس الفن كغاية ترفيه ، هى ما ينبغى على الفنان أن يخلص لها . ولعلى أذكر قول بيرل باك " الفنان اليوم لم يعد يكفيه أن يملك أداة رائعة من الصنعة المكتملة ، بل لابد أن يكون لديه شيء جدير بهذه الأداة يعبر عنه " ، بل إن دعاة الفن للفن يشيرون إلى أنه " على الكاتب أن يتحدث عن شيء من الأشياء " ( ما الأدب ص 25 ) . وقد أبدى سارتر أسفه على لا مبالاة بلزاك تجاه أحداث عصره ، وعلى عدم الفهم ، وعلى الخوف أيضاً الذى أبداه فلوبير تجاه حكومة الكوميونة ، فضلاً عن أنه اعتبر فلوبير والأخوين جونكور مسئولين عن القمع الذى أعقب حكومة الكوميونة، لأنهما لم يكتبا حرفاً واحداً.
المسألة ـ فى تقدير بريخت ـ ليست مجرد تفسير العالم ، بل تغييره ، وعلى حد تعبير كافكا فإن رسالة الكاتب هى أن يحول كل ما هو معزول ومحكوم عليه بالموت ، إلى حياة لا نهائية ، أن يحول ما هو مجرد مصادفة إلى ما هو متفق عليه مع القانون العام " إن رسالة الكاتب نبوية " .
بالنسبة لى ، فإن الكتابة قضية حياة ، وليست مهنة . وكما أشرت سلفاً ، فقد بدأت الكتابة دون أن أفكر : لماذا أكتب ؟. العقاد يؤكد أن الأديب يكتب لأن له رسالة ، ورسالة الأديب هى رسالة الحرية والجمال ، قلمه يجب أن يصبح سلاحاً ضد الديكتاتورية والاستبداد . ذلك مجمل ما يجيب به العقاد عن السؤال : لماذا يكتب الأديب ؟ ، يذكرنى بأول ما أصدرته من كتب مطبوعة ، اسمه " الملاك " ، من الصعب تصنيفه ككتاب ، فعدد صفحاته ستة عشر بالتمام والكمال ، فهو إذن أقرب إلى الكراسة أو الكتيب فى أفضل الأحوال ، محاولة غلبت عليها السذاجة ، وارتكزت إلى التقليد ، مهدت لها بكلمات مشابهة لكلمات العقاد ، وإن لم أكن وقتذاك قد صادفت كلمات العقاد فيما أتيح لى قراءته من كتب . أما الكلمات فهى : الحق ، الحرية ، الحب . ومع أنى لا أذكر الظروف التى كتبت فيها هذه الكلمات ، ولا بواعث كتابتها ، فضلاً عن أنى لم أكن أفهم دلالاتها جيداً ، وإن أمليتها على قلمى .. مع ذلك ، فإنى حين أتدبر هذه الكلمات الآن ، أجدها واضحة فى إطار اهتماماتى الفكرية .
الرواية ـ فى تقدير دوبريه ـ " ذلك الشكل الأدبى الذى يؤدى دور المرآة للمجتمع ، مادتها الإنسان ، أحداثها مبعثها صراع الفرد ضد الآخرين ، للملاءمة بينه وبين مجتمعه ، وينتج عن ذلك الصراع خروج القارئ بفلسفة ما ، أو رؤيا شمولية للروائى " . أرفض دعوة ناتالى ساروت بأن تتحرر الرواية من كل هدف أخلاقى أو اجتماعى ، وأعتبر الكاتب ـ بدرجة وبأخرى ـ موقفاً فى عصره . أستعير من د . هـ . لورنس قوله " بما أن الإنسان يصور العالم من منطلق نظرى ، فمن المطلوب أن يكون لكل رواية خلفية أو مخطط لنظرية عن الوجود ، شيء ميتافيزيقى ، لكن ذلك الشيء الميتافيزيقى عليه أن يخدم الهدف الفنى دوماً، ويختفى وراء وعى الفنان ، وإلا تحولت الرواية إلى دراسة " . وأذكر أن دعوت ـ فى سن باكرة ـ نسبياً ـ إلى ضرورة أن يتضمن مجموع أعمال كل أديب فلسفة حياة ، نظرة شاملة مجتمعية وسياسية وثقافية وميتافيزيقية . كتبت فى " المساء ( 8/9/1960 ) بعنوان " فلسفة القصة " : لو نظرنا إلى أعمال أعظم روائى فى الشرق العربى الآن ـ نجيب محفوظ ـ لأخذتنا الروح الشعبية الصميمة ، واللمسات الإنسانية التى تنبض فى كل سطورها . لكن هذه الأعمال جميعاً لا تريد أن تقول شيئاً محدداً ، فالثلاثية ـ مثلاً ـ اعتبرها بعض النقاد تخطيطاً جغرافياً وتاريخياً ناجحاً للإقليم المصرى [ اسم مصر حينذاك ] إبان ثورة 1919 ، هى صورة اجتماعية صادقة لحياة العصر ، لكنها تفتقر إلى الفلسفة الواضحة التى تعكس نظرة الكاتب إلى الحياة [ راجعت هذا الرأى فيما بعد ، وتوصلت إلى قناعات مغايرة ، أثبتها فى كتابى نجيب محفوظ ـ صداقة جيلين ] والواقع أن كل قصاصينا ، الكبار والصغار [ التعميم مبعثه حماسة الشباب ] ليست لديهم فلسفة معينة ، يمكن أن نحس بها فى كتاباتهم ، كل ما نلاحظه ونحن نخرج من قراءة أية قصة ، أن قاصنا يريد أن يحكى حكاية ، يريد أن يفض عن نفسه تجربة عاشها وعاناها ، أما ما هو الذى يريد أن يقوله من خلال هذه الحكاية ، فلا شيء على الإطلاق " .
أعمال أى مبدع يجب أن تشكل وحدة متكاملة " يوضح كل مؤلف منها مؤلفاته الأخرى، وكل منها يرى وجهه فى الآخر " . أزيد فأزعم أنى حاولت منذ تلك اللحظة ـ مجموعتى القصصية الأولى ـ والأسوار ـ روايتى الأولى ـ أن أحقق ـ بتوالى ما أكتبه ـ تلك الوحدة المتكاملة . ما أنشده فى مجموع كتاباتى ـ ومجموع كتابات الآخرين أيضاً ـ أن ينطوى على فلسفة حياة متكاملة . أن يعبر مجموع أعمال فنان ما عن صورة العالم لديه بما يختلف عن صورته فى نظر الآخرين . الأدب غير الفلسفة ، لكنه ـ فى الوقت نفسه ـ تصور للعالم ، يرتكز إلى درجة من الوعى ، وإن صدر عن العقل والخيال والعاطفة والحواس . طريقة الفيلسوف هى التنظير والتحليل والإقناع ، والصدور عن العقل ، والاتجاه كذلك إلى العقل . أما طريقة الأديب فهى العاطفة والخيال والحواس ، والصدور عن ذلك كله إلى المقابل فى الآخرين ، من خلال أدوات يملكها الأديب ، وتتعدد مسمياتها ، كالتكنيك والتطور الدرامى والحوار واللغة الموحية وإثارة الخيال إلخ . وإذا كنت أومن بوحدة الفنون ، وأن على كاتب الرواية ـ مثلاً ـ أن يضم إلى معارفه وأدوات ثقافته : القصة القصيرة والمسرحية والفن التشكيلى والموسيقا والسينما وغيرها من الفنون ، فإنى أومن ـ بالدرجة نفسها ـ بضرورة أن يقرأ الأديب فى الفلسفة ، يتأمل معطياتها ، يناقشها ، يحاول أن تكون له فى ذلك وجهات نظر . بعض كتاب القصة يعنون بالشكل السوريالى فى أعمالهم ، فإن شاهدوا لوحة سوريالية ، وقفوا أمامها فى تحير ، وربما أعرضوا عن مشاهدتها ، وثمة شعراء لا يجدون فى الأعمال الروائية ما يستحق عناء القراءة ، وسماع الموسيقا الكلاسيكية همّ ينأى عنه غالبية المبدعين [ أذكرك بمقدمة يحيى حقى البديعة لكتابه : تعال معى إلى الكونسير ] . ولعله يمكن التأكيد كذلك على أن نظرة الغالبية من أدبائنا إلى الفلسفة تحتاج إلى مناقشة ، وإلى تقويم ، والزعم بأن الفلسفة ـ وربما الثقافة بعامة ـ تفسد الموهبة ، وتسئ إلى التلقائية والبساطة والشاعرية التى ينبغى أن ينهض عليها العمل الفنى .. ذلك الزعم غير صحيح ، لأن مجرد استقراء تاريخ المشاعل فى حياتنا الأدبية يؤكد أن الحصيلة المعرفية ، والتأمل ، ومحاولات التوصل إلى صورة خاصة للعالم ، كانت هى الدعامات التى استندت إليها أعمال هؤلاء الأدباء . بل لقد أفادت الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع وغيرها من العلوم النظرية والتطبيقية ، من أعمال أدبية لسوفوكليس وشكسبير وديستويفسكى وعشرات غيرهم ، أثروا الحياة الإنسانية بمعطياتهم . وفى المقابل ، فإن المذاهب الفلسفية كانت هى النبع الذى ارتوت منه المراحل الأدبية المختلفة . وضع الفلاسفة وعلماء النفس نظرياتهم ، فبدت أعمال هؤلاء الأدباء ـ أحياناً ـ كأنها تطبيقات لتلك المذاهب [ السراب وعقدة أوديب مثلاً ] . وأفادت الأعمال الأدبية كذلك من قوانين الوراثة [ ثلاثية نجيب محفوظ مثلاً ] ، ونظرية التطور ، ونظريات علم الاجتماع ، وعلوم البيئة . وباختصار ، فإن دراسة الفلسفة ـ كجزء من عملية التحصيل الثقافى ، ينبغى أن تكون هماً لكل أديب ، يحاول أن يشكل ـ من خلالها ـ آراءه ونظرته وتصوراته للعالم الذى يعيش فيه . إنها ـ بالقطع ـ ليست ترفاً قد تستغنى عنه موهبة الأديب ، لكنها ضرورة .
لم يعد دور الأدب فى المجتمع من القضايا المطروحة فى حياتنا الثقافية . وإذا كنا قد شغلنا ـ زمناً ـ بقضية : هل الفن للفن ، أو الفن الحياة ، ودارت فى ذلك مناقشات عقيمة منذ مطالع الخمسينيات إلى مطالع السبعينيات ، فإن دور الأدب فى المجتمع الآن ، ودور الأديب بالتالى ، مما يصعب إغفاله ، أو التهوين منه ، بل ومما يصعب مناقشته ، لأنه دور قائم ومؤكد . الأديب لا يكتب لنفسه ، ولا تنطلق إبداعاته من فراغ ، ولا تنطلق إلى فراغ كذلك ، لكنه يعبر ـ على نحو ما ـ عن هموم قد تكون مجتمعية أو سياسية ، أو حتى ميتافيزيقية ، لكنها هموم تشغله ، وتلح عليه ، وتعبر عن نفسها فى أعماله الإبداعية . وتحديداً ، فإن لى موقفاً ـ أتصوره واضحاً ـ من القضايا الإنسانية والاجتماعية . هذا الموقف يبين عن نفسه فى مجموع ما صدر لى من كتابات . ثمة وشيجة تربط روايتى " الأسوار " مثلاً ، بقصة " التحقيق " برواية " قاضى البهار ينزل البحر " ، ورواية " المينا الشرقية " إلخ . وثمة وشيجة أخرى تربط روايات الشاطئ الآخر ، وزمان الوصل ، وصيد العصارى ، وزوينة " إلخ . ووشيجة بين من أوراق أبى الطيب المتنبى ، و " الأسوار ، وإمام آخر الزمان ، والنظر إلى أسفل ، والخليج ، واعترافات سيد القرية ، وحكايات الفصول الأربعة ، ورجال الظل ، وكوب شاى بالحليب . ووشيجة تربط بين زوينة ، وصيد العصارى ، و زمان الوصل ، وذاكرة الأشجار . وثمة وشيجة تربط بين رباعية بحرى ، وأهل البحر ، ونجم وحيد فى الأفق ، ومواسم للحنين ، ومجموعة ما لا نراه ، والكثير من القصص القصيرة ، إلخ . 
(يتبع)
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://adyeb.yoo7.com
sayedmadkoor
مالك ومؤسس منتديات اديب الظل
مالك ومؤسس منتديات  اديب الظل
sayedmadkoor


ذكر
عدد الرسائل : 2414
العمر : 53
العمل/الترفيه : الادب والشعر والخواطر
المزاج : ادب وشعر وثقافه
الدولـــة : 0
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 06/02/2008

ماذا يريد الكاتب Empty
مُساهمةموضوع: رد: ماذا يريد الكاتب   ماذا يريد الكاتب I_icon_minitimeالخميس 26 نوفمبر - 11:15:20

والوقوف على أرضية الصفر ، بمعنى مواجهة الخطر ، وتحديه ، هو ما يلجأ إليه أبطال رواياتى ، عندما تحاصرهم الأزمة تماماً . يترددون فى البداية ، تنهكهم المطاردة ، يحاولون الاختباء أو الفرار أو التجاهل ، لكن الخطر يدفعهم ـ فى النهاية ـ إلى تحديه ، إلى مواجهته ، ومقاومته . فى روايتى الصهبة يقول الهاجس لمنصور سطوحى : لكى تفر مما يشغلك ، اقذف بنفسك داخله . وكان الوقوف على أرضية الصفر هو سر صمود بكر رضوان فى " الأسوار ، وسر حفاوة " الأستاذ " بالمصير المحتوم . وقد أذهل محمد قاضى البهار مطارديه ، وهو يصفّر ، ويغنى ، فى طريقه إلى البحر ، ليقذف بنفسه فيه . ومثلت مواجهة عائشة للسلطان خليل بن الحاج أحمد لحظات الحسم فى إصرار السلطان على أن ينتزع عائشة من المدينة ، لتقيم معه فى قلعة الجبل . واستطاعت زهرة الصباح أن تحيا فى ظل الخوف ، وتحب ، وتنجب . وفى " الجودرية " تأكد دور المهمشين فى صناعة الثورة ضد حملة بونابرت . وصارت الشقة المطلة على البحر فى البحر أمامها وطناً أعدت السيدة نجاة نفسها للدفاع عنه . وقد أراد بطل قصتى القصيرة المستحيل بإغلاق الأبواب والنوافذ ، وتكويم قطع الأثاث وراء الأبواب والنوافذ المغلقة ، أن ينأى عن الخطر فى خارج البيت ـ فعل مشابه لمد الأيدى أو إغماض العينين ـ اتقاء مواجهة ما يهدد الحياة . تناسى الرجل أن الخطر الذى يتحرك فى الخارج ، يهدد ، ويدمر ، إنما يستهدفه هو فى الدرجة الأولى . وفى قصة فى الشتاء يعانى البطل الفرار من المجهول ، فإذا تحتمت المواجهة ، بدا المجهول لا شيء لقاء إصرار البطل على المقاومة . وفى حدث استثنائى فى أيام الأنفوشى بدا السكوت عن مقاومة أسراب السمان ـ التى قاسمت أهل بحرى حياتهم ـ طريقاً إلى الجنون .
وبالطبع ، فإن هذه الأعمال مجرد أمثلة .
***
أذكر لأستاذنا زكى نجيب محمود قوله : " إنه ليكفى الكاتب العربى أن تكون أحداث العصر قد ألقت فى وجهه شيئاً اسمه إسرائيل ، لتكون وجهة نظره إلى مشكلات العصر وحوادثه ، مختلفة أشد اختلاف مع زملائه الكتاب من الجماعات التى اقترفت فى حقه هذا الجرم ، حين ينظر معهم إلى مسائل العصر وحلولها " ( العربى ـ يناير 1971 ) . كانت يا سلام أولى قصصى المنشورة ( 1958 ) هى التعبير عن انعكاس تجربة الحرب [ حرب 1956 تحديداً ـ على حياة البسطاء ، كما سجلها شاب فى حوالى الثامنة عشرة . ثم أصبحت مصر هى " القضية " فى كل ما كتبت ، مصر الماضى ، والحاضر ، واستشرافات المستقبل ، ما يعجز الفن عن تسجيله ، فإنى أحاول أن أناقشه فى دراسات . وقد أشرت فى مقدمة كتابى " مصر فى قصص كتابها المعاصرين " إلى أن من بين الأسباب التى دفعتنى لتأليفه ، والابتعاد ـ لسنوات ـ عن الكتابة الإبداعية ، تأكيد الصداقة بين الكاتب وبلاده ، بالتعرف المباشر ، وبالقراءة التى تشمل جوانب الحياة المصرية ، بكل اتساعها وخصبها وثرائها . العجوز فى يا سلام تأثرت حياته بنتائج الحرب ، لكن السلام الزائف أخطر ـ فى تقديرى ـ من الحرب ، عندما يوهمك عدوك أن المعارك بينك وبينه قد انتهت إلى الأبد ، وتعانق الوهم ، فى حين يصرف العدو جهده إلى الإعداد للحرب الحتمية ، القادمة . ثمة قول فى سفر التثنية ( الإصحاح العشرون ـ الفقرة العاشرة ) " حين تقترب من مدينة لكى تحاربها ، استدعها إلى الصلح " . الصلح غير العادل ـ كما يقول القانونى فاتيل ـ ظلم لا تتحمله أية أمة إلا لافتقارها لوسائل نقضه ، وإحقاق حقها بالسيف . القضية المحور التى تشغلنى منذ سنوات ، هى مستقبل الصراع العربى الإسرائيلى : الحياة والبقاء والموت ، الكينونة وانعدامها ، الاستمرار والانقطاع . تلك هى القضية التى تسبق فى اهتماماتى ما عداها من قضايا ، لأنها قضية المصير العربى فى إطلاقه . ألح فى أن أدب المقاومة ليس وقفاً على التحريض ضد المستعمر الذى يسعى إلى احتلال أرضى , وتشويه حضارتى وقيمى وموروثاتى وملامح شخصيتى بواسطة أدوات قد يكون من بينها معاهدة سلام . السلام مطمح ، لكنه ـ بالتأكيد ـ ليس ذلك السلام الذى يدفع أحد طرفى النزاع إلى الاطمئنان للغد والمستقبل ، والاطمئنان كذلك إلى النيات المقابلة ، بينما الطرف الآخر يدبر ويخطط ، بل وينفذ ـ علناً وسراً ـ تدبيراته . الحذر إذن مطلوب ، والتنبه إلى الغزو السلمى ، بأبعاده الاجتماعية والثقافية ، يستوجب التعرف إلى الشراك الخداعية فى حقول السلام . أشير إلى رواياتى : النظر إلى أسفل ، ومن أوراق أبى الطيب المتنبى ، والمينا الشرقية ، وصيد العصارى ، ومجموعات : هل ، وحارة اليهود ، وموت قارع الأجراس ، ورسالة السهم الذى لا يخطئ ، وغيرها .
***
ثمة قضايا أخرى ، آنية ، مثل قضايا التخلف : غلبة الاستهلاك على الإنتاج ، محدودية المسار الديمقراطى ، زيادة أعداد الأميين ، انعدام الوعى السياسى والبيئى ، الزيادة غير المسئولة فى النسل ، وغيرها من المشكلات التى قد لا تكون فى صميم مسئوليات المبدع ، لكنها ـ فى الدرجة الأولى ـ قضايا المجتمع الذى يعيش فيه ، ولابد أن ينشغل بها على المستويين الشخصى والعام ، و تتوضح فى أعماله ، بصورة وبأخرى ، على أن تنتسب هذه الأعمال إلى الفن ، وترفض الجهارة والمباشرة . فى قصتى " الرائحة " يقول الطبيب : غلطتان كفيلتان بتقويض أية ثورة .. زيادة أعداد الأميين وغياب الديمقراطية . المثل الشعبى يقول " السجن سجن ولو فى جنينة " ، وغياب الديمقراطية معناه تحول المجتمع إلى سجن ، قد يكون مزوداً بكل الضروريات ، وقد يوفر لنزلائه وسائل الراحة ، لكنه يظل ـ فى النهاية ـ سجناً . الديمقراطية تعنى الرأى والرأى الأخر ، مناقشة المحكوم للحاكم ، التعبير عن وجهة النظر دون خشية من مصادرة أو اعتقال .
***
هنا يفرض السؤال نفسه : كيف تدعو إلى فلسفة الحياة فى العمل الفنى ، وتناقش ـ فى الوقت نفسه ـ صورة المجتمع فى القصة والرواية ؟
ظنى أن انشغالى بضع سنوات فى إعداد الأجزاء الثلاثة من كتابى " مصر فى قصص كتابها المعاصرين " ـ كأول محاولة تطبيقية فى علم الاجتماع الأدبى ـ يؤكد أهمية أن تعبر القصة عن المجتمع الذى صدرت عنه ، وصدرت فيه . لكن العمل الفنى الحقيقى هو الذى يتناول مشكلات آنية فلا يفقد جوهره ولا جودته بغياب تلك المشكلات ، ولا يموت بموتها . ثمة أعمال إسخيلوس وسوفوكليس وشكسبير وموليير وبلزاك وزولا وفلوبير وديكنز وإبسن ونجيب محفوظ وغيرهم ، كانت تعبيراً ملحاً عن قضايا مجتمعها ، لكنها ـ من بعد ـ تجاوزت " الآنية " لتعنى باهتمامات الإنسان الباقية ، وتجيب عن أسئلته المهمة . لذلك فإن المبدع الذى يدرك قيمة الفن ، يتحفظ على الإبداعات التى انشغلت باللحظة الآنية ، فتجردت من الديمومة التى تهب العمل الفنى استمرار الحياة . صارحت أستاذنا نجيب محفوظ ـ عقب نكسة 1967 ـ بإشفاقى من أنه يعنى بالتعبير ـ فيما سماه مسرحيات ذات فصل واحد ـ عن التطورات السياسية والاجتماعية ، التى ربما تتصل بالطارئ والمؤقت ، بحيث تنتسب ـ فى المستقبل ـ إلى التاريخ بأكثر من أن تنتسب إلى الفن . قال لى محفوظ : إن لدى استعداداً لأن أكتب عملاً من هذا النوع ، ولظروف سياسية أحب أن أمارس دورى فيها ، حتى لو قدر لهذه المسرحية أن تموت فور انتهاء المناسبة التى كتبت فيها . لقد عنى ـ على حد قوله ـ بالتوصيل قدر اهتمامه بالتعبير . وكان لذلك بواعثه الملحة ، وهى أن مصر كانت تحيا فى ظل نكسة ، ومع تفهمى لقول سارتر " إننى أكتب لزمنى ، لا يهمنى من يأتون بعدى " ، فإن العمل الإبداعى يختلف ـ بعامة ـ عن الوثيقة التى تخاطب اللحظة المعاشة .
***
صلتى بعملى الأدبى ، وفهمى له ـ بعد أن يجد سبيله إلى النشر ـ يجب ألا تجاوز صلة الآخرين به ، وفهمهم له ، بمعنى أنه ينبغى ألا أتصور فى نفسى قدرة على تفسير العمل ، وفهم دلالاته ، أكثر من الآخرين . وبالتأكيد ، فإن الفنان ليس أقدر الناس على الإحاطة بعمله ، بل إنه قد يكون أبعد الناس عن ذلك . ولأن المتنبى كان ذكياً وفاهماً ، فقد كان جوابه على السائلين عن شعره : عليك بابن جنى ، فإنه أعرف بشعرى منى !. وكان أبو الفتح عثمان بن جنى هو شارح ديوان المتنبى وناقد شعره . على الفنان أن يطرح الأسئلة طرحاً صحيحاً ، لكنه ليس مطالباً بأن يجيب على ما يطرحه من أسئلة . وكما يقول تشيخوف ، فإنه ما من سؤال واحد قد أجيب عليه ، أو وجد حلاً ، فى رائعة تولستوى " أنا كارنينا " ، لكن الرواية ترضينا تماماً لأن كل الأسئلة قد طرحت طرحاً صحيحاً . مهمة المبدع أن يطرح القضية طرحاً جيداً ، وإن كان عليه ـ فى الوقت نفسه ـ أن يظل الطرح بلا حل ، تظل النهاية مفتوحة . فإيجاد الحل هو مهمة المتلقى . إن عليه ـ فى المقابل ـ أن يبذل جهده , ويفكر فيما طرحه المبدع . إنى أكتفى ـ فى نهاية كل قصة ـ وأحياناً فى ثنايا القصة ـ باللمحة الدالة التى تخاطب ذكاء القارئ , وعيه ، تراثه الروائى والقصصى ، لا تفرض عليه استنتاجاً أو رأياً . الكثير من سردى الفنى ينتهى بصيغة السؤال ، أو التساؤل . أذكر قول أندريه جيد " إن واجب الكاتب أن يوجه الأسئلة للقارئ ، ويحاصره ، ويدفعه إلى الإجابة " . كذلك فإنه من حق المتلقى ـ بصرف النظر ما إذا كان ناقداً متمرساً أم قارئاً عادياً ـ أن يستنبط من العمل ما يشاء من القيم والمعانى والدلالات مادامت طبيعة العمل تحتم ذلك ، وليس المطلوب من كل غواص أن يستخرج من البحر ما استخرجه الآخرون .
الفعل الإبداعى لحظة ناقصة ، لا تستكمل إلا بالمتلقى الذى تستكمل اللحظة بتلقيه . قراءة النص إعادة خلق له . بل إن النص المتفوق هو ما يجاوز الدلالة المغلقة ، ليطرح العديد من الدلالات . من حق قارئ العمل الأدبى ـ ومن واجبه أيضاً ـ بصرف النظر عن مدى ثقافته ، أو تخصصه ـ أن يستنبط من العمل ما يشاء من المدلولات ، التى يجد أن العمل يحتمل التعبير عنها . بل إن تصور التفسير الواحد لعمل ما ، ينزع عن ذلك العمل صفة الديناميكية التى تعد سمة أساسية فى العمل الفنى . وكما يقول رينيه ويلك فإنه لو قدر لنا أن نسأل شكسبير عن المعنى الذى قصد إليه من كتابة " هاملت " لما كان فى جوابه ما يشفى الغليل ، مع ذلك فنحن نجد فى هاملت ما قد يكون ـ فى الأرجح ـ بعيداً عن ذهن شكسبير ".
العمل الفنى الجيد هو الذى يحتمل العديد من التفسيرات ، تعدد التفسيرات دليل على خصوبة العمل ، وعمقه ، بشرط أن تصدر كل التفسيرات من داخل العمل ، ولا تفرض عليه من الخارج ، أو تستنطقه بغير ما يقول .
***
يقول أرسكين كالدويل : " إن واجب الكاتب والتزامه يجب أن يكون أمام نفسه ، وأمام قارئه " .
الالتزام لا أرفضه ، ولعلى أوافق عليه . أما الإلزام ، فإنه يعنى القضاء على ملكة الإبداع ، وهى ملكة " فردية " لا تستطيع أن تتحقق ، وتنطلق ، إلا فى جو من الحرية . الإلزام فى الفن يعنى ـ بأبسط عبارة ـ القضاء على موهبة الفنان ، فهى لا تحيا وتزدهر إلا فى الحرية المطلقة . التزام الفنان ينبع من داخله ، من ذاته ، من نظرته إلى الأمور ، وفهمه لها ، وإيمانه بالقضية التى يعالجها ، وفى كل الأحوال ، فإن ذلك الالتزام ينبغى أن يتحرك فى دائرة الفن . وقد أعلن كامى ـ يوماً ـ أنه ضد الالتزام ، إن كان الالتزام يعنى ارتباط الفنان بصانعى التاريخ الذين يغنون على مؤخرة السفينة للقمر والنجوم ، بينما سياط جلاديهم تسلخ شعوبهم فى قلب السفينة نفسها . بل إن الكاتب ـ إذا كان قد اختار مهنته عن اقتناع ، وبجدية ووعى ـ لا يستطيع أن يصمت ، إلا إذا اعتبر الصمت مظهراً من مظاهر الكلام . الأدق : مظهراً من مظاهر رفض الكلام ، لأن الضغوط لا تتيح له أن يتكلم بصورة طبيعية ، وبما يمليه عليه ضميره . وكما يقول سارتر فإذا " تناولت هذا العالم ، بما يحتوى عليه من مظالم ، فليس ذلك لكى أتأمل هذه المظالم فى برودة طبع ، بل لكى أراها حية بسخطى ، أكشف عنها، أبعثها مظالم على طبيعتها ، أى مساوئ يجب أن تمحى " .
وبالنسبة لأوضاع مجتمعاتنا العربية ـ التى لا تجاوز الديمقراطية فيها دائرة التمنى ! ـ فلعلى أزعم أنى أتفهم قول تورجنيف : " يجب على الكاتب ألا يفقد شجاعته ، وإنما عليه أن يمضى فى بسالة إلى النهاية ، فلنرفع رءوسنا إذن فوق الأمواج ، حتى تجتذبنا الأعماق تماماً " . بوسع الكاتب ـ كما يقول الفرنسي بريسباران ـ أن يصمت ، " ومادام قد اختار أن يطلق رصاصاته ، فإن عليه أن يتصرف كرجل ، يصوب إلى الأهداف الحقيقية ، ولا يفعل كطفل يطلق رصاصاته عشوائياً ، وهو مغمض العينين ، لا ينشد سوى سماع صوت انطلاق الرصاصات " .
ليس المهم أن أردد الشعارات الباهرة عن الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وغيرها ، المهم أن أومن بذلك ، أن تتطابق تصرفاتى مع أومن به . الكتابة الحقيقية فى عصرنا نوع من الشهادة ، والكاتب الحقيقى يصرعه رصاص كلماته ، وإن كنت أومن بأن المستقبل للإنسان .
.
.
.
.
أنتهى ..
.
.
.
منقول ..
.
.
[center]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://adyeb.yoo7.com
 
ماذا يريد الكاتب
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
أديب الظــــل :: 
الملتقى الادبى للشعر بأديب الظل ه
 :: منتــدى الأدب المنقــول
-
انتقل الى: