بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
يشغل الواقع المصري والإسلامي، بل ربما العالمي، بسبب قانون الطفل الذي أصدره المجلس القومي للطفولة والأمومة رقم 12 لسنة 1996 والذي أعد المجلس نفسه تعديلا له شمل العديد من المواد.
ونسب الطفل من أهم حقوق الأولاد التي يكتسبوها بمجرد ولادتهم، كفلها لهم الشرع، بالإضافة للنفقة والحضانة، والرعاية المناسبة، والميراث.
نسبة الولد لأبيه:
نسب الأولاد لآبائهم من أهم نتائج الزواج الصحيح كحق لهم، حتى يسلم جانبهم في المجتمع من أي اتهام، ولقد احتاطت الشريعة الإسلامية في ذلك حينما شددت على أسباب ثبوت النسب، وجاء القرآن الكريم بصريح آياته أن نسب الأولاد لا يكون إلا لآبائهم فقال تعالى:" مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ {4} ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا"الأحزاب الآية4، 5.
فالنسب يكون للأب، ولا مجال للادعاء لغير الأب، مهما كان السبب فالآية صريحة في هذا الأمر.
إنكار النسب من الكبائر:
وجاءت السنة المشرفة بتحريم إنكار الولد من قبل أبيه، وبتحريم أن تدخل المرأة على قوم من ليس منهم طهارة للمجتمع وتصحيحا للنسب، وحفظا للحقوق فقال صلى الله عليه وسلم:" أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم، فليست من الله في شيء، ولن يدخلها الله جنته، وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه –يعلم أنه ولده- احتجب الله عنه وفضحه على رءوس الأولين والآخرين"([1]).
التقدم العلمي قرينة، وليس دليل إثبات:
وإثبات النسب لا يعتمد فيه على الجينات الوراثية طبقا لما يستفاد مما قرره الفقهاء المسلمون"([2])، ويتضح من هذا أن التقدم العلمي مفيد في كشف الأحداث، ويصلح كقرينة في الإثبات وليس دليلا وحيدا عليه، لاحتمال الخطأ، فهو بمثابة قرينة تقوي الاتهام ولا تصلح وحدها للإثبات.
شروط نسب الطفل لأبيه:
أولا: النسب لا يكون إلا من زواج صحيح:
والمقصود بالزواج الصحيح هو العقد المكتمل الأركان، بل نص الفقهاء صراحة على لفظ فراش الزوجية، والمقصود بها:" العلاقة الزوجية القائمة بين الزوجين، في ظل عقد زواج صحيح، فمتى كان الزوجان يقيمان معا، فكل ولد تأتي به الزوجة ينسب إلى الزوج، دون حاجة إلى إقرار منه أو بينة بأن هذا الولد ابنه أو ابنته، وهذا أمر متفق عليه بين الفقهاء"([3]).
والأصل الذي جعل الفقهاء يقررون ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:" الولد للفراش وللعاهر الحجر"([4]).
الزنا لا يصلح سببا للنسب، فلا بد أن يكون العقد صحيحا أو مختلفا على فساده –وهو تعبير الأحناف- إذا تم الدخول لكي تترتب جميع الحقوق عليه فالزنا لا يصلح أن يكون سببا للنسب، وذلك لأن النسب نعمة، فلا تنال بمحظور.
ثانيا: إمكان حدوث التقاء بين الزوجين:
أباحت الشريعة الإسلامية الزواج بتوكيل خاص، إذا كان الزوج في مكان والزوجة في مكان آخر يصعب التقاؤهما، فإذا ثبت عدم التقاؤهما من الأوراق الرسمية كأن لم يسافر بلدها، ولم تسافر هي له، وجاءت بولد بعد ستة أشهر من العقد فلا ينسب الولد لأبيه، وهذا شرط جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة.
أما الأحناف فقد فاكتفوا بإمكان الالتقاء عقلا وذلك لحرصهم على ثبوت النسب حتى لا يتعرض الأولاد للضياع.
ولقد كان المذهب الحنفي هو المطبق في مصر حتى عام 1929م إلى أن صدر القانون رقم 25 لسنة 1929م نزولا على رأي الجمهور فقد نصت المادة الخامسة عشرة منه على أنه:" لا تسمع عند الإنكار دعوى النسب لولد زوجة أتت به بعد سنة (نصت المادة 23 من هذا القانون على أن المراد بالسنة في المواد من 12-18 هي السنة التي عدد أيامه 365 يوما) من غيبة الزوج عنها ولا لولد المطلقة والمتوفى عنها زوجها إذا أتت به لأكثر من سنة من وقت الطلاق أو الوفاة"([5]).
والواضح هنا أن القانون المصري قد استند إلى رأي الجمهور في إثبات الالتقاء بين الزوجين لصحة دعوى النسب، كما أنه استند لرأي الفقيه محمد بن الحكم من فقهاء المالكية في أقصى مدة للحمل وهي سنة شمسية مسترشدا برأي الأطباء الشرعيين([6]).
ثالثا: أن يتم الإنجاب في مدة تحتمل ذلك:
وهنا يتحدث الفقهاء عن أمرين الأول : أقل مدة للحمل، والثاني: أقصى مدة للحمل.
الأمر الأول: أقل مدة للحمل: اتفق الفقهاء على أن أقل مدة للحمل هي ستة أشهر وذلك أخذا من قوله تعالى:" وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا " سورة الأحقاف من الآية 15 فهنا حددت الآية الكريمة أن مجموع مدة الحمل والرضاء ثلاثون شهرا، ووفي آية أخرى مدة الرضاع سنتين قال تعالى:" وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ " لقمان 14. فمن مجموع الآيتين كان الحمل ستة أشهر والرضاع عامين أي: أربعة وعشرون شهرا ليتم العدد كما في الآية الأولى ثلاثين شهرا.
وهذا في صالح الطفل الوليد احتياطا لحقه، وتغليبا للوفاء به، بالرغم من أن الواقع لا يؤيد ذلك، ولكن الفقهاء أجمعوا عليه لمصلحة الطفل.
الأمر الثاني: أقصى مدة للحمل:
لا يوجد نص في الشريعة الإسلامية لا في كتاب ولا سنة يحدد أقصى مدة للحمل، ونظرا لعدم تقدم الطب ومعرفة المراحل الدقيقة التي يمر بها الجنين، ولا عمره الحقيقي في رحم أمه قديما، كان اعتماد الفقهاء على الحالات التي يخبر بها النساء.
ومن ثم تفاوتت أقوال الفقهاء تفاوتا كبيرا في هذا الموضوع فمن قائل تسعة أشهر كالفقه الظاهري، ومن قائل سنة كمحمد بن الحكم من فقهاء المالكية، ومن قائل سنتان كالأحناف، ومن قائل أربع سنوات كالشافعية والحنابلة، ومن قائل أربع أو خمس سنوات كالمالكية([7]).
ولقد أشرت سابقا إلى أن القانون المصري أخذ برأي محمد بن الحكم من فقهاء المالكية، واسترشد برأي الأطباء الشرعيين في المسألة.
رابعا: أن يكون الزوج أهلا للإنجاب:
وقد تحدث الفقهاء في ذلك الأمر ويعني هذا الشرط أن يكون الزوج بالغا حتى يمكن للزوجة أن تحمل منه، أو مراهقا على الأقل وهو من بلغ اثنتي عشرة سنة، فالعبرة أن يولد لمثله، فإن كان يولد لمثله فيثبت نسبه، وإلا فلا.
ويلحق به من كان بأعضائه التناسلية عيب كالمجبوب (مقطوع الذكر) والمخصي(منزوع الخصية وهي سبب الإنجاب)، فلا يلحق به نسب لأنه لا قدرة على التلقيح أصلا.
إثبات النسب بالإقرار:
الإقرار وسيلة من وسائل إثبات النسب، ولكنه يختلف عن فراش الزوجية بأن الأول يثبت به النسب- إذا توفرت شروطه- من تلقاء نفسه.
والإقرار وسيلة أيضا وهي مجدية عندما لا يجدي الفراش كوسيلة وذلك عندما ينفصل الزوجان من فترة طويلة يصعب معها أن يكون الفراش مجديا كدليل.
ولقد قسم الفقهاء الإقرار إلى نوعين إقرار مباشر وإقرار غير مباشر، ويقصد بالإقرار المباشر أن يقر الشخص على نفسه بأن هذا ابنه، أو هذه ابنته، ويشترط لصحة الإقرار المباشر ما يلي:
1- أن يكون المقر أهلا للإقرار، بأن يكون بالغا عاقلا مختارا، فلا يصح إقرار منعدم الأهلية كالمجنون، أو ناقصها كالطفل والمكره.
2- أن يكون (الطفل) مجهول النسب، وهذا أصل في الموضوع لأنه لو كان معلوم النسب لرفض إقراره، وهذا يتناقض مع الواقع، ويؤدي للفتنة والكراهية والعداوة بين الناس.
3- أن يكون فارق السن مناسبا، والمقصد من ذلك أن يكون القدر السني بين الأب وبين ابنه مما يعقل أن يلد المقر المقر له، بأن لا يكون قدرا بسيطا لا يستطيع المقر أن ينجب فيها المقر له.
4- أن يوافق المقر له المقر على الإقرار، وذكر الفقهاء هنا أن يكون المقر له من أهل التمييز لصحة هذه الموافقة، وإن كان من أهل التمييز ولم يوافق ترك الأمر للمستقبل إن شاء وافق وإلا فالإقرار لا يرتد لصاحبه.
5- عدم التصريح من المقر أن سبب النسب هو الزنا، وذلك لأن الزنا لا يثبت به نسب، فلا يشترط أن يذكر المقر سبب النسب، لعدم الإضرار بالولد، أو لعدم إلحاق العار به وبأمه وبالمقر نفسه.
والإقرار غير المباشر يختلف عن الإقرار المباشر في أن من يقوم به ليس المقر نفسه، ولكن تربطه به صلة كأن يقول هذا أخي أو ابن ابني، وهذا الإقرار لا يتم في حياة الشخص إلا بموافقته، كأن يصادق ويقول الأب نعم هو أخوك، أو يقول الابن نعم هو ابني، فإن لم يصادق لم يعتبر الإقرار، هذا إن كان حيا أما إن كان ميتا، فيمكن أن يقول المقر هذا أخي ويأتي بشهود على ذلك، وهنا يعتبر الإقرار نوعا من البينة وفي حال وجود الإقرار غير المباشر كان الميراث نافذا بشروط حددتها المادة 41 من قانون المواريث المصري حيث تنص عل:" إذا أقر الميت بالنسب على غيره، استحق المقر له التركة إذا كان مجهول النسب، ولم يثبت نسبه من الغير، ولم يرجع المقر عن إقراره، ويشترط في هذه الحالة: أن يكون المقر له حيا وقت موت المقر، أو وقت الحكم باعتباره ميتا، وألا يقوم به مانع من موانع الميراث"([8]).
إثبات النسب بالبينة:
والبينة هي الدليل الواضح الذي لا يقبل شكا وهي مرادفة للشهادة، ويثبت النسب فيها بشهادة رجلين كما قال جمهور الفقهاء، أو رجل وامرأتين كما قال الأحناف للإطلاق في قوله تعالى:" وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى " البقرة من الآية 282، واشترط الفقهاء في الشاهد شروطا منها الإسلام والبلوغ والعدالة، وهي حجة متعدية للغير، كما أنها ليست في الولد الصلبي([9]).
والجدير بالذكر أن الفقهاء المحدثون تكلموا عن الوسائل الحديثة واعتبارها في الإثبات عموما كما سبق أن أوضحت وأضيف هنا ما ذكره الدكتور وهبة الزحيلي في البصمة الوراثية فقال:" ومن القرائن المعتبرة في تقديري: البصمة الوراثية وتحليلها في المخابر التي تعد نتائجها قطعية تفوق ال 99% فتصلح لإثبات النسب، وهي أقوى أثرا من القيافة، أما البصمات الجنائية فهي أيضا قرينة يمكن اعتمادها في الكشف عن الجريمة، ومنها القيافة في إثبات النسب بتشابه تقاطيع الأرجل و الأيدي "([10]).
إبطال النسب بعد ثبوته
إذا ثبت النسب وفق الرؤية الشرعية فإنه "لا يقبل الإبطال من الأب أو الابن"([11])، كما أن النسب لا يتقادم([12]) لأن "القواعد المقررة شرعا في شأن إثبات النسب هي من مسائل النظام العام وأي مخالفة لها تكون باطلة بطلانا مطلقا لأنها قررت للمحافظة على الأنساب، ولحماية الورثة ولدرء المفاسد"([13]).
والله أعلم.