الشاعرة العبقرية
بقلم الأديب الكبير جورج جرداق
قرأت في صحيفة متطورة جداً كلاماً لم أفهم منه ولا كلمة ... ولفت نظري في أعلى الكلام المنشور في الصحيفة المتطورة كلمة « قصيدة » الحكاية التالية : ذات ليلة من الليالي أنبأنا التلفزيون الحنون بأننا على موعد في هذه الليلة مع الفن .. والنجوم .. والمواهب الـ ...... خارقة ! وأصحاب « المواهب الخارقة » هؤلاء هم ممن يتم جلبهم من هنا وهناك لعرضهم وهم يغنون أو يمثلون ، أو ينشدون شعراً أو
يدقون على الناي والطبلة . وبعد قليل سطع « الفن » وظهرت النجوم ورفع الغطاء عن المواهب الخارقة ... وحدثت نفسي أقول : أنا من ضيع الأوهام عمره ! كم كنت غلطان ودوخان قبل الآن ! لماذا أقعد في البيت كل ليلة مثل الحمار أكتب نثراً وأنظم شعراً وأقرأ هيغو وتولستوي وأبا الطيب المتنبي وأسهر مع أبي نواس ومحمد عبد الوهاب وأحرم نفسي الفرجة على النجوم وأنا من عشاق النجوم في الليالي الصافية ؟ العمر قصير والمواهب نادرة والليالي الملاح أقل من حسنات الشيطان وخير الحكومة فلماذا يا صبي يا غبي لا تغتنم الفرصة وتسهر مع التلفزيون وتستفيد من نعمة الحضارة ؟ ظهر النجوم على الشاشة بالدور وفيهم الناكث والواعد والهابط والصاعد والواقف والقاعد والانسة ذات الطلعة البهية المهيبة والصوت المهول والآنس الناعم الخجول ! وهم في كل حال ناس كرماء يريدون أن يسعدونا ويفرجونا .. كثر الله خيرهم وبعث لنا غيرهم ! في تلك الليلة قدم التلفزيون الحنون ، في جملة ما قدم بلا استحياء ، إحدى الأوانس على أنها شاعرة ، وحين استخدم أعضاء اللجنة المحكمة بالموضوع معرفتهم .... وسألوها أن تصف لهم « شعرها » سلفاً ، ذبلت عينيها وتقلبت على ساقيها وحركت شفتيها وقالت لهم : إن شعرها فصيح .... وموزون .. ومقفى ! فهزوا تأييداً وتأكيداً ! واستمعنا الى « شعرها .. » . لا هو فصيح ولا موزون ، ولا مقفى ، ولا هو شعر ، ولا نثر ، ولا شيء ! هو من العبث الصبيانـي الذي يلهو به أي طفل في غياب أبويه ، أي من هذا الطوفان من السفاسف والتفاهات والحزازير التي يطلع علينا بها يومياً عشرات من غلمان الموضه المسماة « شعراً ... حديثاً ! » . وانبسط أعضاء اللجنة بما اكتشفوه وقدموه - وهنأوا الآنسة على هذه الشاعرية وهذا الشعر .. ووعدوا المواطنين باكتشاف المزيد من المواهب ... ووافقوا على آرائهم ... وهزوا رؤوسهم من جديد تأييداً وتأكيداً . وبعدما سألوها ولا بد أن يسألوها - عن شعورها ومشاعرها ومشاريعها المستقبلية وأجابت في هدوء وثقة واستئناس ، جاء دور ما أبدع وأمتع ! والأبدع والأمتع هو ما قالته « الشاعرة » حين سألوها « بمن تأثرت من الشعراء» . فقالت على الفور ودون تردد : بأبي الطيب المتنبي !! وعلى الفور ودون تردد وافق الأعضاء وظهر عليهم الاعتزاز والاهتزاز ، وهنأ بعضهم بعضاً على أنهم لم يخطئوا بما اكتشفوه وقدموه وأعطوا رأيهم فيه من أول خطوة ، وحركوا رؤوسهم للمرة الثالثة تأييداً وتأكيداً واستدعوا على عجل فرقة إسعاف لمعالجة واحدة من سيدات اللجنة أغمي عليها تأثراً بما تسمع ! .