تقــديـــم : سأحاول في هذه المداخلة، تتبع صورة المرأة في الشعر الأندلسي، حسب المراحل التاريخية، ومن خلال بعض الأبحاث التي أنجزتها في هذا الموضوع، ابتداء من رسالتي الجامعية : "الشعر في عهد المرابطين بالأندلس والمغرب" سنة 1984/1985 في الشعر الأندلسي على هذا العهد. وقد قدمت ملخصا عن هذه الدراسة في الندوة الدولية بقرطبة سنة 1987 . ثم طورت هذا البحث في أطروحتي للدولة : "الغربة والحنين في الشعر الأندلسي" ليشمل الفترات ما قبل عصر المرابطين إلى العهد النصري. وقبل أن أنتقل إلى مقاربة صورة المرأة من خلال بعض النماذج الشعرية، عبر هذه المراحل التاريخية الممتدة. أود قبل ذلك أن أمهد بلمحة عن طبيعة المجتمع الأندلسي وطبيعة رؤيته للحياة وضمن ذلك رؤيته للمرأة .. وهو مقصدنا. تمهيـــد : بناء على تحليل عدة نصوص تاريخية، تراجم، ونصوص نثرية وشعرية بالدرجة الأولى، يتبين أن هناك ازدواجية واضحة في حياة المجتمع الأندلسي وفي طريقة تفكيره وسلوكه ورؤيته للحياة. فهنا الدين والتقوى والورع وهناك الجهر بالمتع الحسية بلا حدود، هناك الجمود والتزمت وهنا الشذوذ والإنحلال.. وهي ظاهرة تحدث عنها الدكتور إحسان عباس في كتابه :"الشعر الأندلسي والأخلاق" وأتى بنماذج عديدة على هذه الإزدواجية مثلا. حديثه عن القاضي ابن ذكوان، كيف يكون شديدا، وقورا في مجلس القضاء، ثم كيف يكون متحررا،... في مجلس الصفاء ومع جلسانه وأصدقائه وتعليل هذه الإزدواجية ـ عندنا ـ أن هذا المجتمع عاش أوضاعا خاصة، منها : تعدد العناصر والأجناس والطبقات التي كان يتكون منها، ومنها على المستوى السياسي، الخارجي الداخلي، هناك الفتن والحروب التي لاتهدأ إلا لفترات محدودة، والتقلبات السياسية المذهلة التي عاشتها الأندلس. وعلى مستوى آخر هناك مستحدثات الحضارة الأندلسية الباذخة، خاصة في الأوساط المترفة، من طرب ولهو ومجالس خمر، ورقص، وجواري ... إلخ. يقابل كل هذا، طائفة من الزهاد والورعين، والقائمي على تطبيق الدين ونواهيه ... الشيء الذي ولد في النفوس نوعا من الترجس من المستقبل، وغدر الزمان، وبالتالي شعورا بضرورة اغتنام الفرصة واختلاس لحظات المتعة قبل تجهم الدهر. من هنا، كانت غزارة شعر الخمريات، والدعوة إلى التمتع بالحياة التي نلمسها في الشعر الأندلسي، خاصة إبان القرنين الرابع والخامس الهجريين. ومن خلالها نلمس ذلك الصراع لدى شعراء الخمريات والغزل .. بين الولاء للقيم الدينية وتعاليم الإسلام والاستسلام للذائذ الحياة، حيث مغريات الدنيا من جواري وغلمان ومجالس طرب وخمر..إلخ وغير ذلك من المغريات التي طورتها الحضارة الأندلسية، إضافة إلى جمال الطبيعة الذي يدفع إلى الإقبال على الحياة وهو صراع كثيرا ما كان الشاعر يتخلص منه بأن الأمر فيه إلى غفور رحيم . هذه الازدواجية تجلت لدى معطم الشعراء الأندلسيين، وانعكست في أشعارهم على مستوى تباين الرؤية الفنية وتعدد المواقف في القصيدة الواحدة . فقد نقرأ لشاعر واحد ـ مثلا، قصيدتين، إحداهما في منتهى المجون والتهتك، والأخرى في منتهى الزهد والوعظ الديني حتى يخيل للقارئ أن هناك شاعرين في شاعر واحد . وما يهمنا نحن في هذا السياق هو انعكاس هذه الإزدواجية على رؤية الشاعر الأندلسي إلى المرأة، ومدى تأثير ذلك في رسم ملامح صورتها. صورة المرأة بين الحسية والرمزية : تتراوح صورة المرأة في الشعر الأندلسي، تبعا لهذه الإزدواجية ـ بين الحسية حينا والرمزية أحيانا. وإن كانت صورتها كجسد ومتعة، تطغى، خاصة في بعض الفترات التاريخية التي شاعت فيها أسباب اللهو والترف. (خصوصا القرنين الرابع والخامس ..) وستنقلب هذه المعادلة، كلما تقدمنا في الزمن، بتأثير قصيدة التصوف، وبداية الإنكماش الحضاري والتراجعات السياسية. غير أن ما تجدر الإشارة إليه أن هذه الرؤية الحسية المهيمنة للمرأة كجسد، ليست رؤية خاصة بالشعراء الأندلسيين، بقدر ما نجد أصولها ترجع إلى وضعيتها داخل المجتمع، وإلى البنية الثقافية بصفة عامة. كما تجدر الإشارة إلى أن هذه الرؤية الحسية تتفاوت حسب أنماط النساء، ووضعيتهن داخل المجتمع الأندلسي : فالمرأة الجارية، أو امرأة المجلس وساقية الخمر، لايرى فيها الشاعر سوى المفاتن الجسدية. والمرأة المحبوبة من طبقة أرقى، غالبا ما تأتي الصورة ممتزجة بين تصوير الجمال الجسدي واللواعج النفسية التي تخلقها في قلب الشاعر. أما صورة الزوجة أو الأم، فالأشعار فيها قليلة، والصورة لهذا النموذج من النساء أرقى وأسمى، نظرا لمكانتها ودورها بالنسبة للزوج وللأبناء، خاصة عندما يرثيها الشاعر بعد وفاتها، ويصف مقدار ما خلفته من فراغ في البيت، ومن حزن في قلب الأبناء والزوج ..
وأستطيع القول، انه بتتبع صورة المرأة في الشعر الأندلسي عبر هذه المراحل التاريخية الممتدة، يمكن تحديد ملامح هذه الصورة في ثلاثة أصناف : 1 ـ الصنف الاول : تطغى فيه صورة الجارية والنديمة في أبيات ومقطوعات قصيرة كما تعكسها كتب المختارات الشعرية التي جمعت نصوصا تنتمي للقرن الثالث والرابع والخامس الهجري على الخصوص. ككتاب "البديع في وصف الربيع" للحميري وكتاب "التشبيهات من أشعار أهل الأندلس" لابن الكتاني وغيرها من كتب التراجم والدواوين، كديوان ابن شهيد .. في وصف ساقية صغيرة السن وفي وصف لهوه بجارية ..إلخ. وهي صور تركز على مواضع الجمال الجزئي في المرأة : لون العيون، وشكلها، حمرة الخدود، لون البشرة، دقة الخصر، ضخامة الأرداف ..إلخ في أبيات ومقطوعات قصيرة غالبا. كما أنها غالبا ما تقترن بمجلس الشراب أو بجمال الأزهاروالأنوار. مثل هذه الأبيات لأحد القضاة يصف زهرة النيلوثر : كأنمـا النيلوثـر المستحسـن الفــض البهــج مقلــة خــود ملئت سمـــرا و غنجا ودعج أو خاتمتــا مـــن فضة وفصه مــن السيج. أو مثل هذه الأبيات التي تبرز الصورة الماجنة وتكشف عن نظرة الشاعر للمراة كوسيلة للهو والمتعة : فالــورد وجنة خــود بيضــاء، غــراء، بضــه كمــــا البنفسج خــــد أبقى بــــه الهشــم عضـه وكثير من النصوص أن لم تقل كلها، تعتمد على رسم مثل هذه الصور الخاطفة واللمحات الجزئية للجمال الجسدي في إطار رؤية لهوية، وطربية وسينمو هذا الإتجاه عند شعراء أمثال المعتمد بن عباد وابن شهيد، وابن خفاجة وغيرهم. |